International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> لؤي كيالي .. إنتاج متألق و رحيل مفجع

Article Title : لؤي كيالي .. إنتاج متألق و رحيل مفجع
Article Author : طاهر البني
Source : رؤى ثقافية
Publish Date : 2003-09-13


رؤى ثقافية العدد ( 4 ) – 13 أيلول - 2003
لؤي كيالي .. إنتاج متألق و رحيل مفجع طاهر البني ناقد و فنان تشكيلي
لم يكن لؤي كيالي نجم الستينات في حركة التشكيل في مدينة حلب و حسب ، فقد كان و ما زال رغم رحيله نجم الحركة التشكيلية السورية ، لا لكونه الفنان الأكثر إبداعا و الأغزر إنتاجا، بل لأنه الفنان الذي استطاع انتزاع إعجاب الجمهور الفني بأعماله ،و شخصه و مسيرته الإبداعية ، التي قدم فيها أعمالا تتسم بالواقعية التعبيرية التي تخاطب الجمهور بلغة بسيطة تحمل في مفرداتها نبرة شاعرية حزينة ، كان هذا الجمهور مستعدا للتعاطف معها ، و الاستجابة لها في الوقت الذي لم يكن لديه الاستعدادات لتذوق النبرات التي تصدر عن بعض الاتجاهات الحديثة التي يفيض بها الغرب .
" فلؤي ليس رمزا من رموز حلب الباقية فحسب ، و إنما رمز من رموز الثقافة الوطنية في سورية . لقد افتتح لؤي الخطوط الفنية عالية المستوى في الواقعية ، وقت كانت الشكلانيات الفارغة تغزو أغلب نتاجات فننا التشكيلي المعاصر "¹.
و لأن لؤي كان يتمثل طبيعة الواقع الاجتماعي و السياسي للبلاد ، فقد استجاب لحاجات هذا المجتمع بكل ما فيه من متناقضات و رغبات فرضتها الظروف التي رافقت مسيرة الفنان منذ مطلع الستينات ، فكان بذلك ممثلا صادقا للأوضاع الثقافية و الاجتماعية التي انعكست في نتاجه واضحة دونما غموض أو إبهام .
ولد لؤي كيالي في حلب في 21 كانون الثاني 1934 ، و فقد أمه بانفصالها عن أبيه و هو طفل صغير ، و عاش في رعاية عمته ، في حين كان والده موظفا في دائرة الكاتب بالعدل في حلب .
و قد رسب لؤي في امتحان الكفاءة ، ثم رسب في الشهادة الثانوية نتيجة اهتمامه بالرسم الذي كان يستحوذ على تفكيره و نشاطه .
" ففي صباه كان مغرما برسم الوجوه على ورقة دفتر بواسطة قلم الرصاص "²و كان أول عرض للوحاته في مدرسة التجهيز الأولى في حلب ( ثانوية المأمون )، و حين حصل على الثانوية العامة عام 1954 انتسب إلى كلية الحقوق في الجامعة السورية في دمشق ، و اشترك في معرض الجامعة عام 1955 و فاز فيه بالجائزة الثانية ، ثم انصرف عن دراسة الحقوق ، و توظف كاتبا في إحدى الدوائر العسكرية في حلب ، كان الدوام فيها ثماني ساعات ، لم ينقذه من ذلك العمل المرهق إلا البعثة التي حملته إلى روما لدراسة الفنون الجميلة على نفقة الدولة نتيجة نجاحه في مسابقة أجرتها وزارة المعارف عام 1956 .
و حين أرسل في بعثته إلى روما عام 1957 عكف على دراسة ما أنتجه فنانو القرن الثاني عشر و الثالث عشر في إيطاليا ، و تأثر بفن " الفريسك " و أساليب معالجته ، و عاد إلى دمشق في عام 1961بعد أن نال شهادة أكاديمية الفنون الجميلة في روما – قسم الزخرفة – و حصد مجموعة من الجوائز و الميداليات أثناء دراسته و مشاركته في بعض المعارض التي أقيمت في إيطاليا³ .
و ما كادت تستقر به الحال في دمشق حتى بادر إلى إقامة معرضه الأول في سورية في المرسم الفني العام 1961 حيث عرض 28 لوحة زيتية ، و 30 رسما تخطيطيا أنجز بعضها في إيطاليا قبل عودته إلى البلاد.
فاستقطب اهتمام الأوساط الفنية و الثقافية التي وجدت في أعماله " وضوحا في الرؤية ، و رصانة في الأسلوب، و حدية في العمل "
كانت أعماله في هذا المعرض تتسم بالواقعية من حيث الصياغة الشكلية التي تعكس موضوعات مستمدة من الواقع مباشرة ، مع شيء من التحوير و التبسيط الذي يعتمد على الخطوط اللينة و المنسابة برشاقة لتحيط بالشكل بمتانة و إغلاق محكم، و توضع لوني صغير ، يعتمد على أرضية يعدها الفنان لتعطي تأثيرات تشبه الجدران القديمة في خدوشها و بثورها .
و كانت موضوعاته تشمل بعض مشاهد الأبنية الإيطالية العريقة ، كلوحة فينيسيا و الزهور التي تحاكي زهور فان كوخ مع شيء من الحس الزخرفي العفوي . بالإضافة إلى العناصر الإنسانية المتمثلة بالنسوة الحالمات ذوات العيون الحزينة ، و الفتية الذين يعانون وطأة البؤس و التشرد كلوحتي العيون الحزينة و البائع الصغير .
و قد صادفت هذه الموضوعات استحسانا لدى جمهور الستينات الذي يتطلع إلى عطاء جديد في الحركة التشكيلية السورية التي تعاني غلبة النتاج التقليدي الهش و فجاجة التجارب المجددة التي تسعى لإيجاد صيغ تشكيلية محدثة ، تستفيد من تقنيات الغرب ، و تطمح إلى خلق فن عربي أصيل ، غني بمفرداته الشرقية و الإسلامية .
في خضم هذا المناخ الفني جاء معرض لؤي ليقدم الموضوع التقليدي في صيغة جديدة ، تحمل في طياتها نفحات رومانسية تتجلى في الظلال الهادئة و المسحات الحزينة المقدسة .. جاء لؤي كظاهرة جديدة تحمل صورة الجمال الهادئ و الحزن الدفين ، تحيط به هالة من الإعجاب في الوسطين الفني و الاجتماعي .
"و تسابقت الأقلام تكتب عن المعرض و الفنان و تصرفاته ، تقربا من الفن أو الفنان ، أو تعريفا به ، و تتالت الدراسات عن عالم لؤي الفني ، كل ينظر إليه من زاوية خاصة ، هذا عن حياته الشخصية ، و ذاك يصف المظاهر و ما تمثله ، و آخر يخطط لمستقبل الفنان أو يتنبأ بالشكل الذي سيؤول إليه أسلوبه أو يتعرض لوصف الجمهور : ( لم تخل الصالة من الرواد لحظة )
أو يعدد اللوحات المباعة : ( و قد بيعت معظم لوحات المعرض منذ الأيام الأولى ... الخ ) .
من متاهات لا أول لها و لا آخر "
" كان النجاح الذي حققه لؤي في معرضه ، و ما أثير حول هذا المعرض من ضجة صحفية ، و ما كتب حول لوحاته المختلفة التي عرضها ، يشكل سمعة طيبة، رفعت من أسهم هذا الفنان إلى مستوى كبار الفنانين رغم أنه حديث العهد بالعودة ".
و يمضي لؤي في نشاطه مستفيدا من استقراره المادي ، الذي جاء نتيجة مبيعاته ، و التوصيات التي كانت تطلب منه في تصوير ( الوجوه الشخصية ) لسيدات أثرياء دمشق و فتياتهم ، و عائلات الأوساط الأجنبية ، بالإضافة إلى عمله مدرسا في كلية الفنون الجميلة ( المعهد العالي ) "و أصبح لؤي من أكثر الفنانين الذين يبيعون لوحاتهم ، و برع براعة شديدة في رسم الوجوه ، حتى أصبح مقصد الكثيرين ممن يرغبون في رسم وجوههم على طريقته .. و أصبح لؤي يبيع كل ما يرسم ، و على الأخص في لوحات الوجوه ، لقد استطاع أن يبيع أحد معارضه كله، و هذا الشيء لم يحدث في تاريخ الفن في سورية" .
" و اتسعت دائرة اللوحات الشخصية لتشمل وجوها متباينة في مصدرها الاجتماعي ( غنية ) أو ( فقيرة مسحوقة )، كما اختلطت المضامين و المحرضات و دوافع التعبير ، فمسحة الحزن التي يضعها في وجه (ماسح
الأحذية) أصبح يستخدمها في رسم الوجوه الخاصة " .
و يقيم لؤي المعرض تلو الآخر:
- المعرض الرابع في صالة الفن العالمي الحديث في دمشق .
- المعرض الخامس في صالة (كايرولا ) في ميلانو – إيطاليا .
- المعرض السادس في صالة ( كاربين ) في روما – إيطاليا .
كل ذلك خلال أربع سنوات ، أظهرت تألقه ، و سلطت الأضواء على أعماله .
و قد كتبت إحدى الصحف الإيطالية تشير إلى أهمية تجربته :
" تقدم أعماله رسالة جيدة بالكلمات الفنية ، غنية بالألوان المتقاربة من بعضها ، بالرغم من أن هذه الأعمال قد قدمت من وجهة نظر فردية جدا ، إلا أنها قدمت بثقة و بتعبير جيد ".
و تحدث الناقد الإيطالي فاليريو مارياني عن أعمل لؤي فقال : "تبدو الشخوص الإنسانية محاطة بتناغم إيقاعي من الخط و مقدمة في جو لوني مدروس محكم ، كما في الرسوم الحائطية الشرقية القديمة ، تطالعك في لوحاتك ثقة حية بالأشياء و الإنسان .. " .
و هكذا استطاع لؤي أن يؤكد حضوره المتألق في الحركة التشكيلية السورية من خلال جملة من الفعاليات الهامة على صعيد العمل الفني ، من أبرزها :
1- التأكيد على التصوير الواقعي بأسلوب جديد يتجاوز الأطر التقليدية التي درج عليه معاصروه ، و ذلك باعتماده على الصياغة الحيوية للخط الذي يحدد كيان الشكل ، و يضفي عليه صبغة حيوية ، و لمسة شاعرية متدفقة ، و هو باستخدامه للخط على هذه الصورة يحاكي المبدأ الذي انطلقت منه الفنون الشرقية في فارس و الهند و الصين و اليابان و الفن الإسلامي ، و هو يلتقي مع تجارب بيكاسو الواقعية .
2- ربط الفنان بين الشكل الذي يجسده العمل الفني ، و بيم مضمونه الاجتماعي أو التزييني ، مبرزا القيم الفكرية و الإنسانية من خلال الألوان المحددة التي تتوزع في أرجاء الشكل بتدريجات لونية دافئة .
3- وقفت أعمال لؤي إلى جانب أعمال زملاؤه الفنانين المجددين لتؤكد لهم قدرة الواقعية على الاستمرار رغم كل الدعوات المغرية للتجديد في عصر بات فيه التجديد و الإضافة المدهشة عنصرا مهما في لغة التشكيل المعاصر .
و بالرغم من اتهامه بتكرار موضوعاته كموضوع معلولا و الزهور و غيرهما ، فقد أثبت أن هذا التكرار لا يفقد العمل الغني قيمته ما دام يكتسي بعدا تعبيريا جديدا في كل محاولة لتناوله و معالجته .
فقد تناول لؤي قرية معلولا تناولا شمل معظم معالمها الفنية و الموحية بقيمها التشكيلية و التعبيرية ، و استطاع أن يلخص هذه المعالم بعشرات اللوحات التي استغنى فيها الفنان عن التصوير المباشر لهذه القرية ، محاولا الاستيحاء من أجوائها . مختزلا فهمه الجمالي و الإنساني لبيوتها المتداخلة و نوافذها المطلة و سلاسلها المتداخلة ، و كثيرا ما يطلق على مثل هذه الأعمال عبارة : " من وحي معلولا " . و هو بهذا يتجاوز الواقعية التقليدية إلى واقعية جديدة موحية ، تعتبر تطبيقا عمليا لنظرية ( الواقعية الإيحائية ) التي نادى بها الفنان رولان خوري ، و لم يستطع تطبيقها في أعماله .
و قدم لؤي صورة للفنان الدؤوب الذي يبذل قصارى جهده في إنتاج متقن و مستمر لا تنقصه الخبرة و
المثابرة، فهو يبدأ عمله " بالسكتش بالرصاص ، ثم ينفذه على اللوحة ، بإعادة رسمه من جديد ، و من ثم
تلوينه.. بفترة قد تطول أو تقصر بين الحالتين بعقلانية صارمة و حساب دقيق " و معالجة لونية حريصة على نظافة اللون و نقائه دون طغيان على الخط الواضح و الأنيق . و هو لا يتوانى في دراسة موضوعه دراسة واقعية شاملة " فتارة يتخذ معلولا مركز بحثه ، فلا يترك منها زاوية إلا و يتأملها ، أحيانا خطوطا سوداء ، و مساحات رمادية أو زرقاء بدرجات غير محدودة ، و تارة ألوان ضبابية متداخلة ، و أخرى يستخدم مناظرها خلفية كما في لوحة صباح الخير .. أيها الحزن و تارة ينقل جهده إلى جزيرة أرواد و يحاصر الصيادين في ساعات ترميم الشباك ، و يقنص عنهم أوضاع جلساتهم الغريبة في تكوينات و تآليف أخرج منها عدا من الأعمال الفنية ، أو حتى يحلو له الركون في المقهى ، فلا يترك ( الباعة الصغار ) دون اهتمام ، فلهم رصيد واضح أيضا في أعماله على مدار طويل من الزمن " .
و استطاع لؤي بتكرار موضوعاته أن يؤكد تفرده و أسلوبه و شخصيته الفنية التي ميزت أعماله عن سواه ، و لعلنا ندرك هذا باستعراض سريع لأعماله ، حيث يتضح لنا كل ما يتفرد به هذا الفنان من تخطيط مكثف ، و تكوينات مغلقة و ألوان هادئة ، و تعابير صوفية حالمة و حزينة ، و غير ذلك من سمات تميز تجربة لؤي و تقدمه بوضوح إلى متتبعي أعماله .
كانت الأجواء السياسية و الثقافية في تلك الفترة من طلع الستينات مشحونة بالحماس القومي و الأفكار الوطنية نتيجة تفاقم الصراع بين العرب و الصهاينة ، و كانت " المناقشات في ذلك الوقت تدور حول مفاهيم الفن للفن ، و الفن للجماهير ، و تسربت تلك الأجواء إلى داخل لؤي ، فبدأ اهتمامه بالقضايا الوطنية و القومية يتبلور أكثر و يصبح إزاءها أكثر حساسية " .
و أخذ لؤي يتلمس القضايا الإنسانية التي تعانيها الأمة ، و وجد في قضية الشعب العربي الفلسطيني مأساة كبيرة ينبغي تناولها في عمل كبير يلخص فيه أبعاد هذه المأساة ، و يطرحها أمام العالم ، فقضية الشعب الذي شرد من أرضه ، و عانى حالات البؤس و الفاقة و الحرمان و الاضطهاد ، كانت تضع الفنان أمام مسؤولية لا تقل في أهميتها عن مواقفه من الصبية المتشردين و الباعة المتجولين ، الذين كانوا يتناولهم في أعماله .
و إذا كان قد تناول في أعماله السابقة قضية الإنسان المعذب بشكلها الفردي ، فإنه أمام قضية شعب يعاني كل أنواع العذاب و الاضطهاد .
و هكذا أنجز الفنان لوحته الكبيرة ثم ماذا؟ عام 1965 فجاءت ملحمة فنية ، و صرخة مدوية واجهت ردود فعل مختلفة حين عرضت في معرض الخريف الذي أقيم في دمشق ذلك العام .
و قد كتب لؤي نفسه عن هذه اللوحة في إحدى الصحف المحلية يقول :
" إنها مأساة ضخمة ، مأساة اللاجئين النازحين عن الأرض المحتلة ، مأساة حاولت قدر استطاعتي و إمكاناتي الفنية أن أعطي أبعادها في اللوحة ، و هذه الأبعاد ممثلة في ثماني نساء بلا نصير ، و طفلين و رجل واحد .
الرجل هو إنسان مطرق خجلا نتيجة لشعوره بذنبه في بيع أرضه إلى عدوه ، و يداه ترتعشان ، إلا أن رجليه ثابتتان مرتبطان بالأرض بالرغم من أنها في حالة تعبة .
و هناك مجموعتان من النساء ، المجموعة الأولى على يمين اللوحة تعبر عن الاستسلام لما حدث ، أما المجموعة
الأخرى التي هي على يسار اللوحة ،فتعبر عن نوع من الألم و الإحساس بالمأساة يصل إلى حد من التوتر يقترب
من الهوس ، أو إلى حد الحقد ، و إلى أقصى اليسار من هذه المجموعة ، هناك امرأة مع طفلها الذي لا يدرك
المدى البعيد في هذه المأساة ، إنه يستنجد بأمه التي تحميه بإحدى يديها ، و باليد الأخرى تحمي طفلا في أحشائها، و لكنها بالرغم من حمايتها هذه ، فإنها في شغل شاغل عنهما بالمأساة .
الأمل في اللوحة يتركز في وجه الطفل ، بالرغم من الأمل المنعكس في وجهه ، بالرغم من موت ( الحمامة ) التي يحميها مع كل ما تمثله ، إلا أن ثبات قدميه على الأرض يوحي بالتصميم و الثقة بأن المستقبل له بالرجوع إلى أرضه المغتصبة من آبائه و أجداده .
هذا من حيث القيمة الفنية في أي عمل ، فقد حاولت تجسيد المأساة إلى جانب التعابير في الوجوه ، و الأيدي و الأرجل ، في الكتلة السوداء الضخمة هم من اللباس ، و في الأشكال الإنسانية التي ملأت اللوحة كلها ، لكي أساهم في عكس الإحساس بالمأساة ، أو نكبة اللاجئين في نفس مشاهد اللوحة .
هكذا كان إدراكي للمأساة عام 1965 كما أنني سأحاول العودة إلى رسم المأساة من جديد لأعطيها أبعادا أخرى ، سواء في المضمون أو الشكل ، ما دام الإنسان يدرك أبعاد الوجود و الحياة أكثر حسب تطوره الفكري ، لأنة نكبة فلسطين ما زالت قائمة " .
و لعل ما تحدث به لؤي يؤكد رغبته في معالجة الموضوعات القومية الهامة ، و جعلها محورا أساسيا في إنتاجه ، مع رغبة في تعديل أدواته الفنية لتناسب موضوعاته " و قد استخدم الألوان السوداء في رسم اللوحة ، لتساعد على التعبير عن المأساة ، و ابتعد عن الألوان الأخرى التي استخدامها و هي التي جعلت لوحته تصدم المشاهد ، و تساعده على تحقيق هدفه .. و لم يعتمد على الخط كأساس في التعبير الفني ، و قدم المساحة السوداء المعبرة ، وتعادلت أهمية الخط في عمله مع أهمية المساحة التي حجزها الخط " .
و هكذا أضحت الموضوعات القومية هاجسا للؤي ، فتوالت أعماله الملحمية تحمل العناوين التالية :
- الإنسان في الساح 1966 .
- الأرض الطيبة 1967 .
-في سبيل القوت 1967 .
- كما حدث في الجزائر 1967 .
و في مطلع عام 1967 ، و قبل أن تحل نكسة حزيران عل الأمة العربية بما خلفته من مآس متوالية ، أقام لؤي معرضه الخاص في سبيل القضية في صالة المركز الثقافي العربي في دمشق .
و قد وصف الفنان ممدوح قشلان ذلك المعرض في كتابه الذي أنجزه عن لؤي عام 1974 ، جاء فيه ما يلي :
المعرض عبارة عن مجموعة من الرسوم عددها ثلاثون منفذة بالفحم و بدرجات اللون الرمادية و بأسلوب يعتمد على قيم التدرج بين الأبيض و الأسود ، يؤديه جو محصور بين القاتم و الفاتح ، يضفي على المعالم الإنسانية عنفا دراميا خاصا يرتبط بأحد جوانب المأساة التي تسيطر عليه . على أن التركيز الأساسي في الأعمال كافة يتوضح في أشد مظاهره في العيون و حركات الأيدي العصبية .
العيون عند لؤي ، تفتح له سرها العميق ، تبوح له بما تريد ، تطلعه على أبعد حدود الحزن الذي يعانيه ، تدعه يغوص في أعماق النكبة التي تعيشها ،فتنطلق يده الواثقة بهدوء و اتزان ليقدم في كل نظرة منها معنى خاصا أو جانبا من المأساة الكبرى .
حتى كأنك لتكاد تلمس رعشة الجفن على الرغم من وجود التفاصيل أصلا ، و تبدو وجوه أشخاصه هنا
تعتصر ألما و حقدا بل غضبا ، و الأجساد تتلوى في صراعات حركات غير مألوفة ، فتراها تتشابك في فضاء غير محدود أو تنفرد مبعثرة على مساحة واحدة من اللوحة كأنها البساط المفروش ، أو تلف حول بعضها في عقد محكمة التماسك ، بينما تنطلق قبضات الأيدي في شتى الأوضاع الممكن ، و أحيانا غير الممكن ، تصورها".
و يتابع الفنان قشلان حديثه عن معرض لؤي واصفا غلاف دليل المعرض بقوله : "... و تبقى صورة غلاف دليل المعرض من أروع الأعمال ، تشكيل إنساني نصبي أكثر منه لوحة جدارية ، يتجسد فيها شخصان مترابطان بإحكام ، و تلمح توزيعات الأطراف إلى تصرف ذكي ، و خاصة في علاقة الوجهين اللذين عالجهما من الزاوية الأكثر صعوبة ، و جعلهما ملتصقين بقوة تثبيتا للرؤية في محور مركزي ، بينما جعل قبضات الأيدي تتوزع في أماكن أخرى تمثل لفتتها ، حتى إنك تجد نفسك – بشكل لا إرادي – تحاول تنفيذ الحركة نفسها ".
و قد كتب لؤي في مقدمة دليل معرضه كلمة جاء فيها :
" و لا بد أن هناك لحظة إشراق في حياة كل إنسان ، لحظة تتجسد فيها رؤيا، يتجسد من خلالها إدراكه لحقيقة وجوده و تبرير هذا الوجود ، في هذه اللحظة فقط يقف الإنسان عاريا أمام نفسه ، و أمام التاريخ منتصرا في أنه أصاب جوهر الحقيقة في تبرير وجوده ، و إعطائه صفة نضالية ذات توتر مستمر متصاعد . و ليس سهلا أن يعرف الإنسان من هو ، و ماذا قدم ، و في أي طريق يسير ، و نحو أي هدف و لمن يعمل و ينتج ؟ .. فمجرد التساؤل لا يعني شيئا ، بل إن تحديد الهدف و النضال في سبيل تحقيقه يعطيه المعنى الحقيقي لوجوده ، و بالتالي فإن تحديد الهدف لا يعني شيئا إن لم يقترن بالشمول ، و كذلك فإن تحقيق الهدف لا يعني الوقوف عنده ، بل تجاوزه إلى هدف آخر ، ثم آخر .
و من هذا المنطلق يأخذ النضال معناه الحقيقي ، و من هذا الكفاح المتواتر المستمر ، و النضال المتصاعد نحو الأفضل ، و الأكثر شمولية ، يدرك الإنسان المعنى الحقيقي لوجوده ، و قد يصفعه هذا الإدراك بحقائقه ، و لكنها ستزيده إيمانا في الانطلاق من جديد نحو آفاق جديدة ليقف منتصرا مرة أخرى في تبرير هذا الوجود ، يجب أن يكون هذا الانتصار على نفسه أولا ، و من خلال نفسه ، فالصراع بين الحق و الباطل ، و بين الخير و الشر أزلي في أعماقه ، و كما أن هذا الانتصار على الذات قد يكون انعطافا في طريق حياته ، و قد يكون استمرارا لها – لأنه هدفه الأفضل في البدء – و لكن عن وعي و إدراك و فهم عميق لما في نفسه ، و لما يدور حوله .
من خلال هذا كله يبدأ نور المعرفة الحقيقية لكل ما يدور حوله يتسرب إلى أعماقه ليدرك حتى المعاني و الحقائق المتضادة في الحياة ، و ليرى كل شي بوضوح دفعة واحدة في لحظة إشراق ، فيدرك معنى الموت ، و معنى البعث، و بأن الاستعمار يعني الموت ، و أن التحرر يعني البعث ، فيدرك أنه ولد من جديد .. فينطلق نحو التحرر و المعرفة ، نحو الحرية و الاشتراكية ، و نحو تحقيق الهدف الأسمى ، تاركا كل ما تناقض مع هذه المعاني ، و متجاوزا من جديد كل العقبات و الحواجز و السدود ، إنه يريد الوصول إلى اللانهاية ، إلى المطلق ، في تحقيق الهدف الأسمى في الوحدة العربية الكبرى .
و خلال كفاحه قد يسقط على الدرب ، و لكنه ينهض مضمدا جراحه ، بإيمان مطلق بالمبدأ، و عقيدة راسخة بالهدف ، ينهض ليتابع الانطلاق من جديد بكفاح و نضال أشد و أعنف ، لأنه عاش لحظة إشراق سجلها في انطلاقه هذا ، و قد يستشهد في كفاحه و نضاله لافظا كل الرؤى في أنفاسه بصمت ، مخلفا أكاليل الغار وراءه.. للآخرين ، لأنه تجاوز حتى الحقيقة ، حقيقة الآخرين ، بل حتى العالم كله .
إنه الإنسان في أبعاده الحقيقية ، و إلا لماذا استشهد حسن الخراط ، و لماذا استشهد غازي و زاوازي ، و لماذا استشهد أسامة بيروتي ، و لماذا استشهد مليون من أخواننا في الجزائر ؟ و لماذا يستشهد إنساننا في الجنوب اليمني ؟ و لماذا استشهد إنسان كوبا ؟ و لماذا يستشهد إنسان الفييتنام ؟
أسئلة تطرح ، و لا بد لها إلا أن تطرح دوما ما دام هناك استعمار ، و ما دامت فلسطين العربية بيد الغاصبين الصهاينة ، و ما دامت الإسكندرون العربية تنادينا في الشمال ، و ما دامت لنا حقوق مغتصبة من أرضنا العربية ، و ما دام هناك إنسان مستعمر و إنسان مستعمر ، و ما دام هناك إنسان مستغل و إنسان مستغل .
و من هنا منطلق الأبعاد الحقيقية للقضية .
و في اللحظة المصيرية التي يتجسد فيها الوعي و الإدراك العميق لحقيقة المعركة المصيرية التي نخوضها مع الاستعمار أولا ، و بكل أشكاله و صوره من ثقافية و اجتماعية و اقتصادية و سياسية ، يتجسد فيها أبعاد القضية الحقيقية ، و ليست إلا تجسيدا لقضايا الجماهير الكادحة من شعبنا العربي .
و في اللحظة التي يدرك فيها فناننا هذه الأبعاد الحقيقية للقضية يدرك بأن الفن يجب أن يأخذ دورا طليعيا في خدمة القضية ، و من خلال هذا الإدراك يكون قد عرف جوهر الفن و معناه الحقيقي " .
لقد أراد لؤي أن يؤكد التزامه بالقضايا القومية لأمته من خلال معرضه هذا ، و أنه لن يقتصر على تصوير اللوحة الشخصية التي تحقق له الربح المادي ، فدوره كفنان طليعي في هذا المجتمع ، الذي يعاني وطأة المآسي التي فرضتها النظم الاستعمارية ، لن يتوقف عن تصوير المواضيع التي فرضتها عليه إغراءات الأوساط الأرستقراطية التي صادرت فنه لحسابها الخاص ، و رأى أن ينتشل نفسه من أحضانها الدافئة ، لعيش هموم أمته و مجتمعه ، محاولا رصد الآلام و المعاناة التي يخضع لها الإنسان العربي .
" و من غريب الصدف أن يفتتح المعرض في مدينة اللاذقية في اليوم ذاته الذي يفتتح فيه العدوان نيران شره إلى أطفال العرب ، يشردهم من الديار ، و يطردهم من البيوت " .
و قد أحدث هذا المعرض ردود فعل مختلفة في الأوساط الفنية و الثقافية ، فبعضهم هاجم الفنان في تناوله لمثل هذه الموضوعات التي تعكس انفعالات سطحية لدى الفنان إزاء قضية كبيرة ، و بعضهم رأى في شدة التعبير و قوة الانفعال ، التي عكسها الفنان ، تشويها لصورة المناضل الحقيقية ، و اعتبر بعضهم أن هذه الموضوعات و الأعمال " أقرب إلى الكاريكاتير .. إن كل واحدة منها ينتهي تعبيرها عند حدود صورتها " .
و اتهمه آخرون بأنه يتزلف للسلطة من خلال تسمية معرضه في سبيل القضية ، بينما جاهر آخرون بأن المعرض قد حقق أهدافه التي سعى إليها الفنان ، و أشاروا إلى " أن الفنان استطاع أن يخرج من القوقعة .. من التقوقع الذاتي .. إلى الجمهور بشكل واضح " .
و أكد بعضهم أن المعرض كان حدثا عظيما : " فهو عمل فني عملاق . عمل فني استطاع أن يجسد موقف فنان من خلال رؤيته الذاتية و أسلوبه الشخصي ، و هو ثمرة إحساس صادق ، و تعبير واضح و جهد كبير .. لم يكن مسرحية قصد بها التملق ، لم تكن إنجازا لإعلان يكسب عن طريقه الشهرة ، بل نتيجة معاناة مخلصة لا ليوم و لا لشهر .. بل لجميع الأيام ، حيث يوجد ظلم و عدوان ، إنه تجسيد كامل لاحتجاج صارخ لأبعد
حدود الاستنكار للوحشية و الظلم و العدوان " .
هوامش :
1- الأديب وليد خلاصي – في الندوة التي أقيمت في الذكرى العاشرة لرحيل لؤي كيالي ، و التي نشرت في صحيفة تشرين بتاريخ 21/3/1989 .
2- المرجع السابق .
3- نال الجائزة الأولى لمسابقة سيسيليا المنظمة من قبل مركز العلاقات الإيطالية العربية 1958 ، و فاز بالميدالية الذهبية للأجانب في مسابقة رافينا عام 1959 ، و نال الجائزة الثالثة في مسابقات مدينة كوبيو ، و الجائزة الثانية في مدينة آلاتري عام 1960 .
4- ممدوح قشلان في كتابه لؤي كيالي الصادر عن نقابة الفنون الجميلة عام 1974 .
5- المرجع السابق .
6- طارق الشريف – كتاب عشرون فنانا من سورية ص 148-149 .
7- المرجع السابق .
8- خليل صفية : الحياة التشكيلية ، العدد 12. ص 27.
9- ممدوح قشلان : لؤي كيالي .
10- المرجع السابق .
11- صلاح الدين محمد . من مقال له عن آخر معرض للؤي في إحدى الصحف المحلية .
12- ممدوح قشلان عن لؤي كيالي .
13- نبيه قطاية : من ندوة عقدت في حلب عن لؤي و نشرت في صحيفة تشرين في 31/3/1989 .
14- الحياة التشكيلية – العدد 15. ص 16 ،17 .
15- الحياة التشكيلية – طارق الشريف – العدد 15. ص 17 ،18.
16- نقل المعرض إلى حلب و حمص و حماه و اللاذقية .
17- ممدوح قشلان : لؤي كيالي ، ص 32 .
18- المرجع السابق .
19- من مقدمة دليل المعرض عام 1967 .
20- ممدوح قشلان : لؤي كيالي .
21- المرجع السابق .