International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> إلى حسين كيّالي .. أربعون سنةً على رحيلك، يا ”أبا لؤي“!

Article Title : إلى حسين كيّالي .. أربعون سنةً على رحيلك، يا ”أبا لؤي“!
Article Author : فاضل السباعي
Source : مجلة الأزمنة السورية
Publish Date : 2010-04-10


إلى حسين كيّالي .. أربعون سنةً على رحيلك، يا ”أبا لؤي“!

فاضل السباعي
مجلة الأزمنة السورية
إلأحد 2010-04-10
ساعة تلقيّتُ على الهاتف وأنا بدمشق نبأ رحيلك، ووعدتُ بأن أتوجّه إلى حلب لأُشارك في وداعك إلى مثواك الأخير، لم أسأل ابنَك، المتكوِّمَ على نفسه أمامي فوق الأريكة، أن يُرافقني في السفر، فقد كنت أعرف مقدار ما يُعاني من الداء الذي عاودتْه أعراضُه، ومن الإحباط لافتقاده القدرةَ على التدريس الذي لم يكن قد مضى طويلُ وقتٍ على استئنافه بكلية الفنون الجميلة.
غيرُ قليل من الناس، يا عمّي، يعرفون أن لؤي هو ابنُك الأوحد، ومنهم من يعرف إنه الابنُ الثالث بعد بنتين، وبعد ثلاثتهم جاءت أختُهم ”غالية“ آخر العنقود. ولكنّ الجميع يعرفون أن لؤي كيّالي كان قُرّة العين لوالده، الذي سقاه دمع العين مذ كان موظفاً في ”دائرة الكاتب بالعدل“. وأذكر أني كنت أراك تأتي إلى بيتك، الكائن لصق ”الزاوية الكيّالية“ فيما يُسمّى ”وراء الجامع“ بحلب، بالسجلات كي تستنسخ بخطّك الأنيق - الذي أَورثتَه لابنك- المستنداتِ المتعيِّنَ توثيقُها... أجل، مثلما أصبح الناس يعرفون في الابن، بعد عودته الميمونة من روما، مُنَشِّطاً للحركة التشكيلية في البلد، وباعثاً في شرايينها دماءً جديدة، ذلك إنه استطاع – باعتراف المنصفين منهم- أن ينقل الفنّ الجميل من حال إلى حال، ما جعل الافتخار به يتجاوز الأبَ والأهل إلى أبناء الوطن.
أُذَكِّرك يا عمّي -وهل لموجودٍ على كوكب الأرض أن يُخاطب مقيماً في دار الخلود؟- بيوم انتقالك إلى دمشق لتُشارك ابنَك الحبيب سُكناه في ”حيّ العفيف“. أَذكُر أنه كان فَرَحَين اثنين: أن ابنك غدا أستاذاً بالجامعة، وأنك ستُقيم بالعاصمة، هذه التي تريَّثتَ طويلاً قبل أن تزورها، فكانت المرة الأولى التي وطئتَ بها أرضها يوم جئتَها لتستقبل ابنك العائد من روما، في ”مطار المزّة“ في يوم من أيام شباط 1961.
فرحٌ عظيم أتذكّره.
ثمّ أذهب بذاكرتي فأتصوّر عاطفةً أخرى، حزناً هائلاً، حلّ بك بعدُ ولم يُغادرك أبداً، حين اضطرّتْك الظروفُ القاسية إلى الرحيل عن دمشق، بعد أن استفحل الداء بابنك الحبيب، الذي وجَّه بأن ينصرف الأهلُ عنه إلى حلب ويظلّ هو وحيداً، تُرافقه الوساوس والأوهام، معتزلاً الناس، منغلقاً على نفسه أيما انغلاق، في تلك الدار، التي قُدِّر لها أن تشهد أيام مجده، ذاتِ المطلّ على ”السكّة“، حيث كانت الصبايا، إلى وقت قريب، المفتوناتُ بـ”لؤي كيّالي“، الجميلِ فنُّه، الوسيمِ شكلُه، يتواعدنَ على الرصيف المقابل، ليسترقنَ النظر إليهَ، عبر النافذة العريضة المُشرَعة، وهو يبتعد عن مرسمه مستشرفاً اللوحة ثمّ مقترباً.
فرحٌ ولّى... وحزنٌ جاء ليُقيم... ورسالةٌ أولى منك تلتْها رسائل، تُمليها عليك أحزانُك، وتخطّها أناملُك الراعشة الراعفة، أخذنا نقرؤها، ونحن في ”شارع نوري باشا“ بدمشق، الذي يلي نُزُولاً ”سكّة العفيف“ حيث كان لؤي يُقيم، والوحشةُ تعصف في طوايا نفسه الموجَعة وفي كلّ زاوية من زوايا الدار.
يقول الأب، الذي في إهابك:
«شرعت بالكتابة إليكم وكأني غائب عن الوجود، كان الله في عوني على المصائب التي هاجمتني مرةً واحدة وسدّت في وجهي كلّ نافذة تُمكّنني من التحرّر مما أُعاني من أزمات نفسية لأُروِّح عمّا أجده من عَنَتٍ وضيق، فيرتدّ الطَّرْفُ إليّ وهو حسير... (وتستدرك) ولولا أن إيماني بالله قويّ، وبأنّ الله يُخرِج الفرَج من الضيق، لكنتُ غير ما أنا عليه، فأنا أتعلّل بأن هذه الدنيا حلٌّ وترحال ونزول وطلوع وعُسر ويُسر وخير وشرّ».
كان يملأ قلبَك الإيمان الذي يُفضي بك إلى الاستسلام لقضاء الله، استسلامً يُعمِّده الخوفُ على الابن الذي أنجبتَه للوطن.
وتشكو لنا الشيخوخةُ البيضاء:
وأنا، كما تعلمون، «لا حَوْل لديّ ولا طَوْل، أُصبح وأُمسي منتظراً يومي الموعود لأُفارق هذه الدنيا بسلام، وأسأله تعالى اللطف بالمقدور بشفاء هذا ”المسكين“ مما هو فيه».
ونحن، هنا في دمشق، يُصرِّح لنا الابنُ، في هواجسه الطاغية، وبصوت عال:
«إنهم يضطهدونني، يتآمرون عليّ... أريد أن أعمل بجامعة القاهرة، بجامعة بغداد، وهم يمنعونني من السفر... وأنتم أيضاً تتآمرون معهم!!...».

ولا يُعفي طبيبَه المداوي في ”مستشفى رأس بيروت“ من الاتهام:
«لماذا يُطاردونني؟ يريدون أن أكون عبداً! ليتركوا لي جزءاً من حريتي، إنهم يدفعونني إلى أن أكره الناس... حتى أنت (يُخاطب طبيبه) تحاول هذا معهم!!».
لمّا آن لك، يا عمّي، أن ترحل، يوم السبت العاشر من شهر كانون الثاني 1970، فإننا لم نكد نفرغ من تبادل المواساة حتى التفتنا إلى لؤي لنتابع المداراة. كان علينا، في دمشق وفي حلب، أن نُغطّي غيابَه المتمادي بالتقارير الطبية، كي لا ينقطع المورد الوحيد الذي بقي له، راتبُه من الدولة، بعد أن تقاعست ريشتُه ولا أقول: تحطّمت، وهو الذي كتب إليّ يوماً، في سُوَيَْعة صَحو، معبِّراً عن عجزه عن أن يستأنف الرسم!
أقول: تابع الأهلُ العنايةَ والمداراة، ولم تُقَصِّر الدولة في ذلك، فقد أَوفدتْه بمهمّة إلى لبنان للمعالجة، التي كانت برعاية عمّه الطبيب النَّطاسيّ الدكتور طه إسحق الكيّالي. وكان من حُسن الرعاية والتدبير، أن استطاع لؤي أن يستردّ نفسه الضائعة، وأن يستنهض همّته الهاجعة، فيسري الإبداع في ريشته ويَشيع الدفء في ألوانه، وأُتيح له أن يتفوّق على ذاته، حتى إنه أنجز كثيراً وكثيرا جدّاً من الأعمال المتميِّزة، منها لوحته "من وحي أرواد"، التي غدت واحدةً من أبرز مقتنيات المتحف الوطني بدمشق.
ولكنّ قَدَر الله، يا عمّي، نزل بابنك في إحدى نكساته المرضية، فاحترق وهو في فراشه، وغادرنا إليك، والفارق بين الرحيلين: ثماني سنوات وأحد عشر شهراً وستة عشر يوماً... أجل، أرقامٌ أحفظها، وزمنٌ أُعنى به، وفنٌّ أُجِلّه، وأشخاصٌ يستحقّون الانحناء.
وأُخبرك، يا عمّي، أن ابنتك الغالية ”غالية“، شاءت أن تُعلن يوم الاحتراق، أن ”سيكارة“ كان يُدخّنها لؤي وهو في سريره، سقط نارُها فأحرق الفراشَ والنائمَ فيه، وتُنوقل الخبر على هذه الصورة وانتشر في الأرجاء.
والحقيقة أُعلنها في ذكرى رحيله القادمة (الثانية والثلاثين)، يوم الأحد السادس والعشرين من شهر كانون الأول 2010، أما بقيتُ على قيد الحياة.
كن قرير العين حيث أنت، فقد أنجبتَ، وقد تسجَّل اسم المنجَب، واسم المنجِبً، في سجلّ الخلود.
فاضل السباعي