International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> حرق لوحاته حزنا على فلسطين : التشكيلي السوري لؤي كيالي .. فنان الحزن والمأساة

Article Title : حرق لوحاته حزنا على فلسطين : التشكيلي السوري لؤي كيالي .. فنان الحزن والمأساة
Article Author : غـازي انعـيـم
Source : جريدة الدستور الأردنية
Publish Date : 2009-02-20



حرق لوحاته حزنا على فلسطين : التشكيلي السوري لؤي كيالي .. فنان الحزن والمأساة

غـازي انعـيـم
ناقد وفنان تشكيلي أردني

يكاد يجمع كل من كتبوا عن كيالي، على ارتباطه بالمدرسة الواقعية والتعبيرية، وهو حكم يستند في رأيي إلى مكنونات تجربته وانعكاساتها النفسية.. وهي تجربة شديدة الخصوصية والقلق بجوانبها الشخصية والاجتماعية والسياسية، فقد عاش طفولته وصباه في أجواء الحياة الشعبية.. بين ثراء الفئات العليا وحرمان الأغلبية المطحونة. ومن ناحية أخرى فان المشهد الذي تفتح عليه شباب الكيالي كان ملبّدا بنكبة فلسطين عام 1948، انتهت باقتلاع الشعب الفلسطيني من دياره، وبصور مفزعة للدمار والخراب.. وكذلك بهزيمة عام 1967، التي خلفت حالة من الخوف واليأس بعد ضياع كامل الأراضي الفلسطينية، حتى بدا له وكأن العالم يرتد إلى حالته البدائية الأولى.. فأصيب بأزمة نفسية حادة أدت إلى إقدامه على حرق جميع لوحات معرضه في سبيل القضية.
لقد تبدت وامتزجت تلك الرؤى المنعكسة عن مناخ الواقع في العديد من لوحاته على امتداد مراحله المختلفة عندما صور بريشته حياة البائسين والمحزونين والفقراء من أبناء وطنه وأمته.. في لوحات حملت عناوين مختلفة.
ولد لؤي كيالي في مدينة حلب عام 1934, وكانت بداياته الفنية الأولى في سن الحادية عشرة برسم تخطيطي سريع لجده على لوح حجري كان يستخدمه لؤي في المدرسة الابتدائية ، وكان الشبه واضحاً كما يذكر لؤي بين ما خطط وبين جده. وشجعه بعض من أفراد عائلته بمواصلة تنمية مواهبه. وبدأ بشراء بعض الصور الملونة لكبار الفنانين أمثال ليوناردو دافنشي كلوحة العذراء والطفلين، وأخذ بنقل تلك الصور على القماش وبالألوان الزيتية دون أية خبرة سابقة وكما يقول: "كنت ارسم على القماش دون تحضير بالمواد الأولية اللازمة. فجاءت أعمالي تقليداً هجينا وأعمى".
في المرحلة الإعدادية بدأ بالرسم عن الواقع وكانت المواضيع غالباً تمثل طبيعة صامتة ومنفذة بالقلم الرصاص أو بالفحم وبتوجيه وتشجيع من الأستاذ غالب سالم، بعد ذلك بدأ بدراسة تاريخ الفن وتعلم كيفية تحضير وتأسيس القماش وقطعة المازونيت للرسم. في هذه المرحلة استمر كيالي بنسخ بعض اللوحات الفنية، إلى جانب تكبير صور ورسوم بعض الممثلين والممثلات وكذلك صور بعض المقربين منه وهذا ما أفاده في السنين التي تلت ذلك.
واصل تنمية موهبته الفنية في المرحلة الثانوية وأقام أوائل معارضه المدرسية في قاعة الثانويات الأولى في حلب عام 1952 وعام 1953 وكان من ضمن الأعمال المعروضة مواضيع ملتزمة مأخوذة من الواقع كلوحة "دليل الأعمى" وتمثل شيخاً ضريراً يقوده طفل من يده وكلوحة "الشحادة" ولوحة "الزوادة" وتمثل عاملاً بائساً يحمل عصا عليها زوادته من الطعام.
بعد إتمام المرحلة الثانوية في عام 1954 انتقل إلى دمشق والتحق في كلية الحقوق ، وفي عام 1955 شارك في معرض أقامته الجامعة السورية ـ جامعة دمشق ـ وحصل على الجائزة الثانية. لكنه لم يواصل الدراسة في كلية الحقوق، فتركها ليعمل كاتباً في "المعتمدية العسكرية" بحلب. في هذه الفترة المبكرة من عمر الحركة التشكيلية السورية.. أوفدت وزارة المعارف ـ التربية والتعليم ـ عدة دفعات من الفنانين الشباب إلى مصر وتركيا وبريطانيا وألمانيا وروسيا وإيطاليا لدراسة الفن، وكان من ضمن الموفدين للدراسة في إيطاليا عام م1957 الفنان لؤي كيالي.
وفي مراسم أكاديمية روما للفنون الجميلة توهجت موهبة لؤي الفنية وتفتحت له الآفاق الواسعة، مما ساهم في أغناء ثقافته الفنية.. وهذا ما جعله يبدي تفوقه في إنتاج اللوحة بشكل واضح، مما أتاح له تمثيل بلاده خير تمثيل في العديد من المعارض التي أقيمت في إيطاليا، حيث حصد العديد من الجوائز الفنية، منها الجائزة الأولى من مركز العلاقات الإيطالية، التي تنظم مسابقة (سيسيليا ) عام 1958، والميدالية الذهبية للأجانب في مسابقة (رافينا) عام 1960م.
وفي عام 1958، وبعد خلاف مع أستاذه جنتيلي ـ الفنان الايطالي المعروف ـ انتقل في كيالي من قسم التصوير إلى قسم الزخرفة (الديكور) ، ونتيجة لهذا الخلاف أراد كيالي أن يثبت وجوده تشكيلياً في الأكاديمية وفي روما فأقام معرضه الشخصي الأول الذي لاقى استحسان الفنانين وأثار اهتمام النقاد الايطاليين لأول مرة.
وفي عام 1960 مثّل مع (فاتح المدرس) الفنانين التشكيليين السوريين في بينالي البندقية الذي يقام مرة كل سنتين، فكان حضوره مميزاً، ولافتا في نفس الوقت.
وفي عام 1961 أنهى دراسته من أكاديمية الفنون الجميلة بروما ، وحصل على شهادة عالية في قسم الزخرفة، عاد بعدها إلى وطنه ليعمل مدرّساً للتربية الفنية في مدارس حلب أولا ولاحقا في مدارس دمشق الثانوية.. لكنه انتقل في عام 1962 إلى تدريس مادة الرسم ومبادئ الزخرفة في كلية الفنون الجميلة بدمشق. وقدّم في نفس العام معرضه الشخصي الرابع في صالة الفن الحديث العالمي بدمشق، وكان البورتريه الطابع الغالب على معرضه الذي أثار حفيظة النقاد حول إنتاج الفنان، إن كان محليا أم لا؟
ومع عام 1964 بدأ يقدم معارضه في ايطاليا (صالة كايرو لا بميلانو 1964 وصالة الكاربيه في روما 1965) ، وقد استقطبت معارضه أنظار النقاد والوسط الفني في ايطاليا. وقد أكد في أعمال هذه المرحلة على أسلوبه في المعالجة الواقعية لطرحه الفني فتناول على مسطحات لوحاته الأطفال المشردين والعمال المسحوقين والفقراء والمتعبين الذين يكافحون من أجل الحصول على لقمة العيش.. وكانت وجوه أبطال لوحاته تؤثر الصمت.. وتحتفظ بآلامها وأحزانها.. وكانت تلك الوجوه في وضع سكوني لا تعبر عن رغبة بالانفكاك من طوق البؤس..
ونذكر من أعمال هذه المرحلة: حلاق القرية، الرسالة، ماسح الأحذية، الصياد الصغير، أمومة، راكب الدراجة، الوجه الحزين، ثم ماذا؟
تعتبر لوحة ( ثم ماذا ) ملحمة فنية أحدثت ردود فعل كبيرة.. وكانت قصة مأساة اللاجئين تبدو وكأنها في حوار صامت حزين مع كل من يشاهد هذه اللوحة الملحمية، وقد كتب لؤي معلقاً على لوحته بقوله: (إنها مأساة ضخمة.. مأساة اللاجئين النازحين عن الأرض المحتلة، مأساة حاولت قدر استطاعتي وإمكانياتي الفنية أن أعطي أبعادها في اللوحة) ، وهكذا توالت لوحات لؤي ملتزمة بخدمة القضية الكبرى فنرى ملاحمه الفنية بعد ذلك في معرضه الذي حمل عنوان "في سبيل القضية" الذي أقامه عام 1967 في صالة المركز الثقافي بدمشق والذي ضم 30 لوحة منفذة بمادة الفحم.
وقد خرج لؤي في تلك اللوحات عن واقعيته المعهودة وعن صمته.. وانفجرت شخوصه على مسطحات لوحاته التي آثرت السكون والسكوت طويلاً.. بالصراخ والغضب.. وكانت أكثر إصراراً على النضال من اجل التحرير والحرية.. وزادت ألوانه قتامة.. واتخذ من الألوان الرمادية وسيلة لتعميق التعبير الدرامي في أعماله..
وقد أثار بعض الصحفيون في تلك الفترة ضجة إعلامية حول المعرض.. وأعلنوا عليه حرباً قذرة تحط من قيمته كفنان ملهم.. وتنال من أعماله كصدى واقعي لأحداث أمته.. ورأوا في أعماله"تهجماً على الإنسان العربي وتشويهاً له ومزايدة سياسية وكاريكاتيراً.."، وكتب احدهم وقد ساءه شدة التعبير وقوته: إن أعمال لؤي (مفزعة ومرعبة) وهذا يعتبر خروجاً عن واقع المناضل، "وبالقطع هذه مغالطة، فان التعبير عن النضال ليس هو التسجيل المباشر في صورة إنسان يحمل بندقية".
ويكتب آخر مستهيناً بأعمال الفنان : "أن أعماله أقرب إلى الكاريكاتير ينتهي تعبيرها عند حدود صورتها"."والمغالطة هنا لا تحتاج إلى دليل.. فان عظمة (دومييه) كفنان يوضع في مصاف أكبر المصلحين والنقاد الاجتماعيين تتمثل في تعبيراته (الكاريكاتورية) في لوحاته، بل إن المبالغة في التعبير في مثل هذه الموضوعات الهادفة.. تساعد على الاستيعاب المباشر المؤثر في نفس المشاهد".
يقول صهره الأديب المعروف فاضل السباعي في رثاء لؤي: "كان خصومه أقسى فؤاداً من الحجر، رأوه في نجاحاته الباهرة قامة عالية شماء، فانهالوا عليه بكل ما أضغنت نفوسهم من حقد، ذماً وتسفيهاً وطعناً، وقد غفلوا عن أن لؤي ـ بعد كل نجاحاته العظيمة وقبلها ـ إن هو إلا إنسان قد من لحم ودم وأعصاب،".
كما أشار كثيرون إلى أن فن لؤي على أن به تأثيرات مباشرة من فن جيوتو وانجر وديجا وتولوز لوتريك، وبيكاسو في مرحلتيه الزرقاء والوردية حينما يعالج المآسي الإنسانية، "ولكن فن لؤي في النهاية يحمل بصماته ولا نرى فيه إلا عالمه المميز ".
لم يعر كيالي أي اهتمام لما كتب.. بل طاف بمعرضه ـ الذي كان حدثاً فنياً هز وجدان الجماهير المتعطشة للنصر ـ أرجاء بعض المدن السورية.. وبدا من حلب إلى حماه وحمص واللاذقية. وفي مدينة الساحل تناهى إليه نبأ نكسة حزيران التي أصابت أمته ولم يستطع تحمل الكارثة فأصيب بأزمة نفسية حادة أدت إلى إقدامه على حرق جميع لوحات معرضه.. وعلى إثرها تفجر غضبه وقدم مجموعة من الملصقات السياسية التي تحمل في طياتها إدانة للتقصير العربي.. وأمل النصر.. وبعد انتهاء الحرب أصيب الكيالي بأزمة نفسية حادة اعتكف على إثرها بعيداً عن الناس.. وتوقف عن الرسم من أجل الاستشفاء..
وفي عام 1970 ترك العمل في كلية الفنون، لأن حالته الصحية لم تعد تسمح له بمواصلة التدريس.. وبعد صدور كتاب تسريحه من العمل استقر في عام 1971 في بيت صغير متواضع في حي السبيل بمدينة حلب يقاسي آلامه الثقيلة في صمت رهيب، وبعد تجاوزه للأزمة عاد ليرسم الناس البسطاء.. وهم الذين يراهم كل يوم، يمرون أمام ناظريه وهو في مقهى القصر من بائعي أوراق اليانصيب، والنسوة الحبالى أو المرضعات.. بعد ذلك بدأ يستعيد عافيته ويشارك في المعارض. ويمكن اعتبار الفترة الواقعة ما بين عام 1973 و 1976 بالفترة الذهبية بالنسبة لكيالي، حيث بدأ ينتج بغزارة.
في هذه المرحلة تناول كيالي الورود وأزهار عباد الشمس.. وادخل التجريد كعنصر متمم في أرضية اللوحة، وجاءت هذه الأعمال نتيجة لرغبة الفنان في البحث والتجديد.. لكن كيالي الذي اعتبر هذه الأعمال طفرة في حياته التشكيلية عاد إلى تناول مواضيعه المحببة والتي حملت عناوين مختلفة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: التفكير العميق، بائع الفطائر، بائع متجول، تأمل، بائع الجوارب، العيون الخضر، الشقيقتان، حامل السلة، عازف العود، بائع المسكة، معلولا، قارب، المستلقية، بائع الذرة، من وحي أرواد.
في عام 1975 سافر كيالي إلى روما ، لكنه عاد ليعاود السفر من جديد في عام 1977 ـ أي بعد معرضه الحادي عشر في حلب ـ مقررا الاستقرار فيها بشكل جدي ولكنه يعود مرة أخرى مع عام 1978 ليستقر في حلب، وبدأ يعاني من أزمة صحية.. بدا على أثرها يتناقص شهرا بعد شهر إلى أن تحول إلى هيكل عظمي دون ظهور بوادر لإنقاذ حياته.. وفي العاشر من أيلول 1978 يحترق الفنان في غرفته بل ويحترق جزء من جسمه بفعل سيجارة كان يدخنها وينقل اثر الحادث إلى المستشفى، وفي السادس والعشرين من كانون الأول عام 1978 يتوقف نبض لؤي، ويودع الحياة في مستشفى حرستا بدمشق اثر مضاعفات الاحتراق ويدفن في حلب في اليوم التالي.. تاركاً خلفه أكثر من ألف عمل فني ممهورة بدمه وإحساسه الصادق.