International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> من أعلام الفن التشكيلي في سوريا

Article Title : من أعلام الفن التشكيلي في سوريا
Article Author : جمال قطب
Source : مجلة الدوحة ( تصدر في قطر ) العدد 48
Publish Date : 1979-12-00


مجلة الدوحة ( تصدر في قطر ) العدد 48 محرم 1400 ديسمبر 1979
يكتب للدوحة من دمشق
من أعلام الفن التشكيلي في سوريا
عندما يحارب الفنان في سبيل القضية حتى الشهادة.
كانت أعمال الفنان مركزة عل الكادحين و البائسين و الشاردين في رحاب الأرض
الشخوص الإنسانية عند لؤى تبدو محاطة بتناغم الخطوط والثقة والحيوية
لؤي كيالي ... كان اسما مرموقا في قاعات الفن ومنتدياته، ومات أحد الأمناء على ريادة الحركة الفنية في القطر العربي السوري منذ عام 1962 بعد حصوله على شهادة أكاديمية الفنون الجميلة في روما ... و حتى إقامة معرضه الأخير في صالة الشعب للفنون بدمشق عام 1974 ... ثم انزوى الفنان يلملم جراحة النفسية العميقة، و ترك الأضواء الزائفة في العاصمة الثائرة، و قبع في بيت صغير في مدينة حلب يقاسي ألامه الثقيلة في صمت رهيب، حتى سحقه المرض فأسلم الروح الطاهرة في 26 من كانون الأول 1978، و طويت صفحة الأسطورة الفنية التي تبنت قضية المعذبين و المشردين و اللاجئين ... و التي تغنت بالإنسان العربي الشامخ المناضل ! و قد كتب صهره الأديب السوري المعروف ( فاضل السباعي ) في رثاء لؤي :
" إني إذ أرثيك يا لؤي، فإنما أرثي فيك نفسي القلقة المعذبة، و أرثي رهطى من الأدباء و الفنانين ، فنحن ضحايا محتملة تسير على دربك، درب الفن المزروع أبدا بالأشواك التي تدمي اليد و العين و القلب و النفس ! "
و كتب معاون وزير الثقافة الأستاذ أديب اللجمى في رثائه :
" كانت أعمال الفنان مركزة على الكادحين و البائسين و الشاردين في رحاب الأرض، يحاولون بسواعدهم و عرق جباههم أن يزيحوا عن نفوسهم الطيبة الصافية أوشاب الدنيا و جشع الالتصاق بالتراب، لقد تفرد لؤي في التمييز بين عالم النور و عالم الظلمة ، و امن بأن النور ينبع من الداخل ، من أعماق النفس ! "
أما كاظم حيدر ، أمين عام اتحاد الفنانين التشكيليين العرب فقد قال عن لؤي : " ... عرفته الإنسان الثائر الذي خلد إنسان هذه الأرض الطيبة في أعماله "
المأساة ... تتكرر أبدا فمن هو هذا الفنان الذي حمل آلام و آمال شعبه على كواهله المثقلة المكدودة؟ يقولون دائما إن المعاناة تصنع الفنان، كدفء الشمس يبعث في الأوصال الحركة و الحياة . و لكن هذا الدفء قد يتحول إلى لهيب حارق يحول الحياة إلى رماد و أنقاض ! و هذه هي تجربة فناننا لؤي كيالي مع المعاناة الأليمة و الرفض الصامت الكئيب الذي تحول إلى مرض نفسي عضال حطم كيان الفنان و أودى بحياته و هو لم يزل في سن الشباب !
الفن إحساس ... و الفنان أولى الناس برفاهة الحس و شفافية البصيرة ، و كلما نضج الفنان و صدق عطاؤه . وصلت حساسيته بدرجة الإفراط ... بل إلى درجة التوتر النفسي الرهيب ! كما حدث لفنان عالمي معروف من ألمع فناني فرنسا في أواخر القرن الماضي و هو ( فان جوخ ) الذي يعتبر إحدى العلامات البارزة في تاريخ المسيرة الفنية عبر التاريخ ، حيث دفعه قلبه الكبير إلى حب الناس ... كل الناس ... فشاركهم أفراحهم و أتراحهم ، و أجزل العطاء للفقراء و البائسين ، و عمل واعظا في السجون ليكون قبسا ينير طريق الضالين إلى طريق الخير و الأمان، و تنازل للكادحين و التعساء عن كل ما يملك من حطام الدنيا بما في ذلك طعامه و ألبسته الشخصية ، و لكنهم بدلا من تقبل و تقدير سلوكه هذا ، لقبوه بالمجنون ! ثم لجأ إلى ألوانه الهادرة الثائرة علها
تعبر عن مكنون فؤاده نحو الناس ، لكنهم رفضوا عطاءه ، و تنكر له زملاؤه الفنانون من معاصريه ، لم يفهموا لغته المعبرة عن صدقه و أحاسيسه ... سعى إلى الطبيعة يناجيها و خلط دماؤه بألوانه و عواطفه و صاغها لوحات هي الآن من مقومات التراث الإنساني : السماء الملبدة الغاضبة ... و الأشجار بأغصانها و ثمارها تتلألأ بألوان الطيف المبهرة ... و حقول القمح المنبسطة تموج بالعطاء و النماء و الخير الذي يملأ قلبه و عقله ... و لكن أنات نفسه الجريحة ... كانت مجسدة في ألوان وحشية صارخة ...
لم تجد من يقدرها أو يحللها ليفهم مضمونها و فحواها ... بل لم يلق من مجتمعه إلا الاحتقار و التنكر و الجحود... و اتهموه أيضا بالهذيان و الجنون ... ! و أخيرا عثر على الملاذ ... أحب فتاة بائسة تصغي إليه و تمسح عنه بعض آلامه ... و لكنها ما لبثت أن تهكمت على فقره و تعاسته ... و نظرت إلى أذنيه الكبيرتين و قالت مداعبة : إذا لم يكن لديك ما تهديه لي ... فإني أريد إحدى أذنيك ... ! و لم يجد عنده ما يقدمه لها تعبيرا عن حبه المخلص سوى أن يقطع أذنه و يرسلها إليها مع بطاقة تحية من المحب البائس ... ثم سقط محموما يهذي باسم محبو بته ، و ظل باقي أيام حياته في مصحة للأمراض العقلية ... ثم ينهي حياته برصاصة من مسدس ، أطلقها على نفسه ليهرب من أسر الحياة ... حيث لم يجد إلا الجحود و التهكم و الأحقاد ... ثمنا لعطائه و حبه للناس ... لكل الناس !
و لست أدري لماذا يحضرني هذا المثال القاتم عن حياة ( فان جوخ ) عندما أستعرض حياة فناننا العربي الإنسان ( لؤي كيالي ) ... لعل القصة هنا ، و المثال هناك ... متشابهان إلى حد كبير ! قصة قلب الفنان عندما يتسع لحب البشر و يتفاعل مع آلامهم و أحزانهم بنبض حار هادر ثائر ... حتى إذا ما أجهده العناء و الإرهاق ، خر في الميدان صريعا ... شهيدا في سبيل قضية الصدق و الوفاء و الحب العظيم !
بداية عملاقة
بدأ لؤي يعرض إنتاجه الفني بعد عودته من الدراسة بايطاليا عام 1961، وكانت الحركة الفنية في سوريا تشق طريقها بخطى حثيثة لتأخذ مكانتها بين الأنشطة الفكرية الأخرى، وأنشئت مراكز الفنون التشكيلية في المدن الكبرى ، و نشطت حركة استضافة المعارض العربية والأجنبية، كما أسس المعهد العالي للفنون الجميلة لأول مرة عام 1960 وتوالت عودة الفنانين الدارسين بالخارج ، و تعددت أسالبيه و خبراتهم، وكونوا النواة الخصبة لبناء صرح فني كان من دعائمه القوية المميزة فناننا لؤي كيالي، الذي اتخذ من الواقعية أسلوبا مستحثا في تلخيص الأشياء وانسيابية الخطوط، أي أنه اكتفى بالشكل البصري ملخصا ومبسطا بوعي واقتدار، وكون لنفسه أسلوبا خاصا في (التكنيك) يتشكل من جزئيات تجريدية تتناغم في مجملها لتصبح جماليات و مسطحات بصرية معقولة لا تنحدر إلى التطرف أو الطلاسم السيريالية، ولعل هذا الأسلوب أنسب الوسائل عامة كأداة توصيل جيدة لشرح المضمون الإنساني التي تزخر بها لوحات الفنان ومعظمها يعالج قضايا الأرض والإنسان. وإن كانت تتسم في مجملها بطابع الصمت والقتامة والتعبير المجلل بالرهبة المضجعة. و هكذا كان الفنان صادقا مع ما يعتمل في نفسه من الإحساس بالمآسي الإنسانية بشكل عام ، وبواقع وطنه العربي بشكل خاص . فمشكلة الإنسان العربي ، واحتلال أرضه، والعبث بمقدراته، وانتشار الفاقة، و تبدد الأحلام و الآمال، كل هذا مضافا إليه حساسية الفنان وتفاعله مع بيئته بصدق واستيعاب ... جعل انفعاله يتبلور إلى طابع مأساوي أصبح أهم مظاهر فنه الأصيل .
وإن من يشاهد لوحات ( جويا ) الدراماتيكية مثل لوحة (3 مايو 1808 ) أو لوحة ( الفاجعة ) ليدرك التشابه الواضح في المضمون والمعالجة بين الأسلوبين : أسلوب لؤي الدائم و المميز ، وأسلوب جويا في مرحلة ثائرة غاضبة من حياته !
و من الصعب أن نقارن بين أسلوب لؤي كيالي وغيره من الفنانين العظام عبر قرون طويلة ... وإذا كانت هناك بعض الملامح تربط بين أسلوبين لفنانين مختلفين إلا أن الحقيقة أن لكل فنان حياته وتأثيراته وانفعالاته وعالمه الخاص، وقضية المعالجة غالبا ما تتركز أساسا في الشكل ( التكنيك ) أما المضمون أو الناحية الموضوعية ، فإنها حق مباح للبشر جميعا ، وقضايا الإنسان في كل العصور لا تختلف في جوهرها و خاصة في ما يتعلق منها بالمقومات الأساسية للحياة و الموت و الآمال والمصير .
و قد أشار كثيرون إلى فن لؤي على أن به تأثيرات مباشرة من فن جيوتو و انجر و ديجا و تولوزلوتريك ، و بيكاسو في مرحلتيه الزرقاء و الوردية حينما يعالج المآسي الإنسانية .
و لكن فن لؤي في النهاية يحمل بصماته و لا نرى فيه إلا عالمه المميز .
براعة لؤي في رسم الشخصيات
و بنفس القدر من البراعة الحسية و تجسيد الانفعالات ، برع لؤي في رسم الصور الشخصية ( البورتريه ) بأسلوبه المميز حيث تتناغم الخطوط الملخصة الرشيقة مع الأوان المتجانسة المليئة بالحياة و قد لاقت تلك الصور الشخصية رواجا منقطع النظير بين العديد من الشخصيات المرموقة في سوريا و من خارجها .
و قد لفتت تلك الأعمال المتنوعة أنظار الناقد العالمي الإيطالي فاليريو مارياني فكتب يقول :
" تبدو الشخوص الإنسانية عند لؤي محاطة بتناغم من الخطوط ، و مقدمة في جو من الألوان بفهم و إحكام . إن الثقة و الحيوية تطالعك في أعماله ، تراها في الأشياء كما تراها في تصويره الواعي للإنسان !".
و تسابقت الأقلام تكتب عن لؤي ، و قدمت الأبحاث عن ( عالم لؤي الفني ) ، و صار له تلاميذه المعجبون بفنه و فكره في القطر السوري كما في ايطاليا حيث منهل ثقافته الفنية ... و مشاركته الدائمة في معارضها و مساهمته في نشاطاتها الفنية .
و مما هو جدير بالذكر أن لؤي قد أقام في حياته تسعة معارض خاصة ، كانت لوحاته تباع في ساعات قليلة عقب الافتتاح ، و ما كان الفنان ليسعد دائما بالمال أو يحرص عليه ، كما لم يتدرب على إجادة استخدامه . بل و لم يخطر بباله قط أن يصبح ثريا ، و يتحدث المقربون إليه و الخاصة من أصدقائه بقصص أشبه بالأساطير عن كيفية إنفاق ما يصل إلى يديه المعطاءة الخيرة من أموال ، و الدليل على ذلك أنه خرج من الحياة بلا مال كثير أو قليل ... بل أن توفير الاحتياجات الضرورية في آخر أيامه ، و قضية علاجه الطويل و سبل الإنفاق عليه ... كان من أهم متاعبه !
قضية الإنسان
من عصارة الألم ... ينبعث الأمل ، و من شدة المأساة و ضغط الفاجعة يتفجر الحق و الغضب ، و هنا تبرز الوسائل الإبداعية الكامنة عند الفنان : معايشة و تأثر استيعاب و تفاعل ثم انفعال .
و هكذا كانت لوحات لؤي كيالي تفيض معاني البؤس و الحزن الصامت المتحفز كفوهة بركان يكاد أن ينفجر،
فلم يكن الجمال الشكلي أو المادي هدفا أساسيا في أعماله ... وإنما التعبير عن مضمون يرتبط بالمعاني النفسية والمتصلة بالحزن و الألم بوجه عام .
و لعل لوحة ( ثم ماذا ) التي أبدعها عام 1965 تعتبر ملحمة فنية أحدثت ردود فعل كبيرة ... و كانت قصة مأساة اللاجئين تبدو و كأنها في حوار صامت حزين مع كل من يشاهد هذه اللوحة الملحمية ... و قد كتب لؤي معلقا على لوحته بقوله : ( إنها مأساة ضخمة ... مأساة اللاجئين النازحين عن الأرض المحتلة ، مأساة حاولت قدر استطاعتي و إمكانياتي الفنية أن أعطي أبعادها في اللوحة ! ) .
و كما ذكرنا فقد كان لؤي فنان الأحزان المكبوتة و الآلام الإنسانية المبرحة ... و لكنه في نفس الوقت يجسد معاني الأمل بقدر يسير في لوحاته المفجعة ... فها هو ذا يرمز إلى الأمل المنشود في لوحة ( ثم ماذا ) بطفل انعكست على وجهه البريء كل معاني القهر و الضياع و قد ماتت حمامة السلام بين يديه ... و لكنه مع كل ذلك يغرس قدميه في الأرض ... بالتصميم و الثقة في المستقيل القريب !
و هكذا توالت لوحات ( لؤي ) ملتزمة بخدمة القضية الكبرى فنرى ملاحمه الفنية بعد ذلك :
الإنسان في الساح 1966 ـ الأرض الطيبة ـ في سبيل القوت ـ كما حدث في الجزائر و كلها في عام 1967 ... كان هذا قبل أن تحل النكسة المشئومة في حزيران ( يونية 1967 ) .. و لكنه كان يعايش الأحداث .. و يعتقد أن الأعوام تتوالى على شعبنا العربي و هو في نكسة حقيقية .. و إن أحداث يونيو 1967 ما هي إلا طفرة في سيل النكسات و النكبات التي تتلاحق على شعوبنا العربية المقهورة دائما !
لذلك نراه يقيم معرضه الخاص الكبير في أوائل 1967 و يسميه ( في سبيل القضية ) يعرض فيه ثلاثين لوحة تتناول موضوعاتها رأيه الخاص في المأساة الفلسطينية .. كما تحدد بوضوح رؤية الفنان المعبرة عن عواطفه و مشاعره اتجاه ما يجري حوله .
متاهات ( الحقد ) المعاصر !
اختار لؤي الطريق الصعب .. دفعه إيمانه الراسخ بقضية شعبه بل و قضايا الإنسان عامة ، إلى التفاعل الصادق نع الألم !
فزادت ألوانه قتامة .. و ازدادت التعبيرات المأساوية على وجوه الأشخاص في لوحاته .. و اتخذ من الألوان ( الباردة ) و القاتمة المتدرجة و التي يمكن أن نسميها ( مرحلة رمادية ) وسيلة لتعميق التعبير الدرامي في أعماله..
و قد لاقى هذا المعرض التقدير و حسن التقييم عند القلة الواعية .. أما الحاقدون ـ و هم كثيرون ـ فقد أعلنوا عليه حربا قذرة تحط من قيمته كفنان ملهم .. و تنال من أعماله كصدى واقعي لأحداث أمته .. فيكتب أحدهم و قد ساءه شدة التعبير و قوته : إن أعمال لؤي ( مفزعة و مرعبة ) و هذا يعتبر خروجا عن واقع المناضل !
و بالقطع هذه مغالطة ، فإن التعبير عن النضال ليس هو التسجيل المباشر في صورة إنسان يحمل بندقية !
و يكتب آخر مستهينا بأعمال الفنان : إن أعماله أقرب إلى الكاريكاتير ينتهي تعبيرها عند حدود صورتها !!
و المغالطة هنا لا تحتاج إلى دليل .. فإن عظمة ( دومييه ) كفنان يوضع في مصاف أكبر المصلحين و النقاد الاجتماعيين تتمثل في تعبيراته ( الكاريكاتورية ) في لوحاته ! بل إن المبالغة في التعبير في مثل هذه الموضوعات الهادفة .. تساعد على الاستيعاب المباشر المؤثر في نفس المشاهد !
كما وصفه آخرون بأنه يتقرب إلى السلطة من خلال تسمية المعرض ( في سبيل القضية ) .. و على كل حال .. فإن اسم المعرض و مهما صيغت ألفاظه أو تبدلت تحت أي شعار آخر .. فالحاقدون .. هم الحاقدون ، لم يعدموا الوسائل للتجريح و التشهير بالفنان العظيم !
يقول فاضل السباعي في كلمته عن اتحاد الكتاب العرب .. و كأنها زفرات أشبه بالأنين يخرج من قلب موجع مكلوم : ( كان خصومه أقسى فؤادا من الحجر ، رأوه في نجاحاته الباهرة قامة عالية شماء ، فانهالوا عليه بكل ما اضطغنت نفوسهم من حقد ، ذما و تسفيها و طعنا ، و قد غفلوا عن أن لؤي ـ بعد كل نجاحاته العظيمة و قبلها ـ أن هو إلا إنسان قد من لحم و دم و أعصاب ! )
و يستطرد السباعي في كلماته الدامية :
( في عام 1962 ، رسم لؤي لوحة للمسيح مصلوبا .. و قبل أيام عدت إلى صورة اللوحة عندي فأثار عجبي ما تراءى لي من الشبه العظيم بين المسيح المصلوب ، و بين لؤي ، الذي كان حتى الأمس القريب ممدا في سريره في مستشفى ( حرستا ) !
رأيت أن المصلوب في اللوحة لم يكن المسيح بل هو لؤي نفسه ! ) .
كالأم تقتل أطفالها
.... و حلت نكسة حزيران 1967 ككابوس مخيف يطبق على الأنفاس ... و كان معرض ( في سبيل القضية ) ما زال موضع جدل في كل المحافل السورية ..
لم يستطع الفنان تحمل صدمة المأساة الجديدة .. كانت تصورا و حدسا .. و أصبحت حدسا ..! و هنا حدث ما لم يكن حسبان أحد .. لقد روع رواد المعرض ـ ذات يوم ـ بالفنان نفسه .. و هو ينهال على لوحاته إتلافا و تمزيقا حتى أجهز عليها بكاملها .. ثلاثون لوحة هي فلذات كبده .. صارت حطاما تحت أقدامه !
لم يجد ما يعبر به عن رفضه للنكسة إلا الإقدام على قتل أولاده و بنات أفكاره .. فلنا أن نتصور مدى وقوع أحداث النكسة على وجدانه المرهفة و أحاسيسه المثقلة بأدران الحزن و أعباء الاضطهاد !
سحقته الأحداث سحقا .. و أصيب بأزمة نفسية حادة .. اضطرته إلى التوقف عن عمله الوظيفي كأستاذ بكلية الفنون الجميلة .. بل و عن ممارسة الإبداع الفني لأكثر من عامين بعدها .. و لم يكن أمامه ـ بعد استنفاد إجازاته الصحية ـ إلا الإحالة إلى التقاعد ..
و في مدينة حلب .. انزوى العملاق يجتر آلامه في صمت مجلل بالقهر و اليأس و التأمل .. بعيدا عن الأضواء الصاخبة العابثة في العاصمة السورية .
و في وحدته الموحشة .. و مع آلامه النفسية الثقيلة بدأ يمارس إبداعه معبرا عن ذاته .. و كانت المشكلة الإنسانية هي محور تفكيره .. إنها قضية واحدة في فنه ، متصلة الحلقات و كأنها ملحمة مستمرة تجدد دائما مع دقات قلبه الكبير : الألم الدائم و المصير القلق ! فنراه يسجل الناس البسطاء في لوحاته .. و هم الذي يراهم كل يوم ، يمرون أمام ناظريه و هو في ( مقهى القصر ) من النسوة الحبالى أو المرضعات ، و بائعي أوراق اليانصيب و غيرهم من الباعة الجائلين التعساء :صبية في عمر الزهور يعانون محن الحياة في سن مبكرة و يقاسون شطف العيش على أرصفة الشوارع !
إن أعماله في معرضه 1974 ـ كانت تعبيرا من نوع آخر عن الألم الإنساني ممثلا في وجوه فئة تعيسة من عامة الناس البسطاء .. و لكن حلقات المأساة عند لؤي .. تتوالى دون توقف .. و حتى يلفظ آخر أنفاسه الثائرة !
قراءة اللوحة في فن "لؤي"
إن فن لؤي ما هو إلا تعبير مجسد لإنسان يعيش في مأساة مستمرة و متجددة ، و إن فناننا لديه من الحساسية المرهفة ما لدى لؤي ، و يعيش نفس حياته و يعاني ما عاناه ، لا بد أن يكون صادقا و مخلصا في تعبيره عن الشعور بالوحدة المرة و العزلة الموحشة و الآلام النفسية التي يرتبط بها . فهو لا يكتفي بالمظهر الخارجي لشكل الإنسان و إنما يلج إلى عالمه الداخلي .. فالغنائية الجمالية .. و البصيرة المبهرة .. تبدو في روعة شكلية لا تنحرف باللوحة إلى عالم الطلاسم العقلانية المتطرفة ، و كان اهتمام لؤي بانسيابية الخطوط و رشاقتها يعيد إلى الأذهان فن أساطير عصر النهضة و العصر الحديث من أقطاب فناني فرنسا في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر من أمثال ( انجر ) و ( دافيد ) و غيرهما ممن اهتموا بالمثالية الشكلية في أعمالهم .
و لكن الموضوعية عند الفنان السوري الكبير كانت تعبيرا فوريا يلحق بالوجدان في عالم تموج أرجاؤه بروعة المأساة الإنسانية بكل أبعادها .
و قد لخص فن لؤي أحد النقاد العالميين البارزين و هو باولو أميليو بوتشيني بقوله : ( انه فنان رزين صاحب ضمير لم يترك نفسه تغتر بالمظاهر الفنية الخفيفة المفتعلة ، و تبدو لوحاته و كأنها ثمرة لمحاولات صعبة و دراسات و عمل متواصل ، و لكنها لم تكن أبدا نتيجة عمليات عقلية باردة جافة ، إنما نتيجة لرغبة ملحة تنبع من داخله منطلقة تنبض بالحياة و الشاعرية ، إنه يهتم بتجسيد الإنسان في مظاهره الأكثر حساسية و الأكثر شاعرية في إطار حزين ! )
لقد كان لؤي نبتا طيبا من أعماق هذه الأرض الطيبة .. ترعرع مختلطا بفئات الكادحين من مواطنيه .. و استعذب الدفاع عن قضايا البائسين و المقهورين و المشردين في الأرض فليس من باب المجاز أن نلقبه بالشهيد .. و إذا لم يكن لؤي شهيدا فمن الشهيد إذن ؟
.. أخيرا حظي بالتقدير بعد رحيله !
و في أوائل هذا العام .. في ذكرى الأربعين يوما على رحيل الفنان إلى عالم السكينة الأبدية أصدرت نقابة الفنون الجميلة ـ مشكورة ـ بالتعاون مع وزارة الثقافة و الإرشاد القومي كتيبا خاصا عن الفنان الفقيد ، تحية اعتراف و تقدير بدوره في الحركة الفنية التشكيلية في القطر السوري ..
قدمت له بقولها :
( .... إن أعمال ( لؤي كيالي ) كانت ممهورة بدمه و إحساسه الصادق .. لقد كانت مدرسة قائمة بذاتها من الناحيتين التشكيلية و الإنسانية بكل ما في أبعاد هاتين الناحيتين .تحية عرفان و تقدير إلى روح الفنان الطاهرة ، و ليكن إخلاصه و تفانيه دربا نيرا يسير عليه المخلصون الجادون في مسيرة الحركة الفنية ! ) .