International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> لؤي كيالي و مأساة الفن التشكيلي في سورية

Article Title : لؤي كيالي و مأساة الفن التشكيلي في سورية
Article Author : فيصل خرتش
Source : رؤى ثقافية
Publish Date : 2003-09-13


رؤى ثقافية العدد ( 4 ) – 13 أيلول - 2003
لؤي كيالي و مأساة الفن التشكيلي في سورية فيصل خرتش
كان الصباح يهل على مقهى القصر مشرقا بكآبة باردة، حين فتح أبو الخير ساقي المقهى الأبواب، و اتجه ليعد فنجان القهوة المركزة ، انتهى من ذلك و حمل الفنجان الخالص البياض ، وضعه في صينية ثم رصف بجانبه كأس الماء السكرية الصغيرة . و اتجه إلى عمق المقهى ، إلى الكرسي المنفرد ، الباسط يديه على ركبتيه بحزن سرمدي.. وضع الفنجان و كأس الماء و السكرية فوق الطاولة الصغيرة ، و مضى .. تركه وحيدا فارغا ينتظر من اعتاد الجلوس عليه ، من كان يليه بالصمت الدفين ، ينتظر أن يدخل لؤي كيالي ليصبح عليه ، بينما انتحى أبو الخير جانبا يمسح دمعته، و يهمس في أذن المقهى ... " لقد احترق لؤي " .
اسم جديد في الساحة الفنية
من هو لؤي كيالي .. ولد في حلب عام 1934 ، و بدأ الرسم صغيرا كعادة الذين تتفتح مواهبهم المبكرة ، و أقام معرضا له في مدرسته الثانوية ، ثم التحق بكلية الحقوق ، و بعد ذلك أوفد في بعثة لدراسة الرسم في أكاديمية الفنون الجميلة في روما ، و حصل على عدة جوائز عالمية في إيطاليا ، ثم انتقل إلى قسم الزخرفة و حصل على شهادة أكاديمية الفنون الجميلة . عاد إلى بلاده ، و كالعادة ، فقد عين مدرسا للتربية الفنية في ثانويات دمشق ، و بعد ذلك نقل لتدريس الرسم و مبادئ الزخرفة في كلية الفنون الجميلة في دمشق .
أقام معرضه السابع في مدن القطر ، و ضم المعرض ثلاثين لوحة معالجة بالأبيض و الأسود ( الفحم ) عبر فيه عن كفاح الإنسان العربي ، و تنبأ فيه بهزيمة حزيران. و حين وقع العدوان "الإسرائيلي" أصيب بأزمة نفسية حادة ، أتلف على أثرها لوحات المعرض، و انقطع عن الإنتاج حتى بدايات 1969، حيث عاد إلى حلب ليتفرغ للرسم ، و أقام معارضه في ( روما و ميلانو، و بيروت و دمشق و عمان ) .
لقد بدأ لؤي يعرض نتاجه الفني بعد عودته من الدراسة في روما عام 1961 ، و كانت الحركة الفنية تشق طريقها متسارعة لتأخذ مكانتها بين الأنشطة الفكرية ، دون أن يكون لون خاص بها ، و قد مزجت بين مختلف الاتجاهات السائدة في العالم ، و حاول بعض الفنانين الشبان الذين درسوا في الغرب أن يقدموا مفهومات جديدة من خلال الاتجاهات المعاصرة ...
عاد لؤي ليزج بكل ما يملك من طاقة و قدرة على العطاء ليثبت قدمه في الحركة الفنية ، لأنه لم يكن يملك رصيدا فنيا سابقا ، فهو غير معروف بالأوساط الفنية المحلية ، لذلك كان عليه أن يباشر بالتعريف على إنتاجه و قوة خطه . فشارك في المعارض الجماعية بلوحات قليلة لفتت الأنظار إليها بشكل صحيح ، و أشارت إلى ما يملكه من مستوى فني و طاقة إبداعية ، بالإضافة إلى تميز أعماله بمظهر شخصي و رصانة في الأسلوب و جدية في العمل . كتب الدكتور سلمان قطاية حول معرضه الأول :
" نجد أنفسنا مع بوتشيلي و هو يرسم حبيبته في فلورنسا على صورة فينوس ساعة ولادة الجمال فيها ، أو أننا في أروقة الكنائس و الكاتدرائيات الفخمة القديمة ، و قد انتصب على جدرانها قديسون بجلال رهيب و وقار ملكي ، و وقفت الملائكة ... عذارى يغضضن الطرف حياء ، و يرتلن الأناشيد على ألحان الألوان الهادئة " .
و ربط بين أعماله و بين أعمال جان دومينيك ، و إدجار ديجا و تولزز لوتركي ، إلى أن يصل أخيرا إلى بيكاسو
العظيم في مرحلتيه الزرقاء و الوردية حين عالج المآسي الإنسانية. و ليكرس جملته الشهيرة : " إن الخط هو
الرسم و هو كل شيء ".
و هكذا وضع لؤي إمكاناته و طاقاته ضمن طريق خاصة به محددة المعالم، تؤلف اتجاها لفنان ذي أسلوب مختلف كل الاختلاف عن الاتجاهات السائدة بين فناني القطر . و هو اتجاه خاص يحدد رؤية خاصة به في قطاعات معينة من الناس ، و في عناصر الأشياء ، موقف يرتبط بمعاني ذاتية لا ينفذ إليها إلا الباحث عنها .
إيقاع البشر و خطوط الحزن
ما هو سر " العيون الحزينة "؟ و لماذا كل هذا الأسى العميق المنبعث من عيني فتاة تفترش الأرض؟ و ما هو هذا الشيء الحزين الذي يمزج ما بين التعبير النفسي و المظهر المادي للجسم؟ في لوحة البائع الصغير ، إنه الحوار الخطي المتناغم الذي يتكرر في جميع أعماله، و الذي جعل الناقد الإيطالي فاليريو مارياني يقول " تبدو الشخوص الإنسانية محاطة بتناغم إيقاعي من الخط، و مقدمة في جو لوني مدروس محكم ، كما في الرسوم الحائطية الشرقية القديمة ، تطالعك في لوحاته ثقة حية بالأشياء و الإنسان ...".
و في لوحات الطبيعة الصامتة و المناظر الخلوية تندمج عناصر الأشياء لتحمل دلالات إنسانية مأساوية. يساعد على ذلك الرداء اللوني شبه الموحد، و الجو العام المخيم على لوحاته ، مع التلاعب الخطي الذي ينتقل من وجه إلى زهرة و من آنية إلى مئذنة ، يعبر في قيم واضحة عن البعد المعنوي الحقيقي لهذه الأشياء . نحن إذا أمام فنان جديد لا عهد للساحة التشكيلية بمثله، أدخل خبرة جديدة مرتبطة بتقنية مدروسة مع المفهوم المرتكز على ارتباط شكل اللوحة و مدلولها. و يهاجم الشكل و يدخل فيه، في أعمق عقده ، يبحث عن المقومات الحقيقية التعبيرية . و قد لاقى النجاح الكبير في كل معارضه فكتبوا عنه في الصحف الإيطالية : ( تقدم أعماله رسالة جيدة بالكلمات الفنية ، غنية بالألوان المتقاربة من بعضها ، و رغم أنها قدمت من وجهة نظر فردية إلا أنها قدمت بثقة و تعبير جيد ) .
لقد تميز لؤي بالجهد الدؤوب و العمل الجدي المستمر في البحث الفني ، فتارة يتخذ قرية معلولا مركز بحثه ، فلا يترك منها زاوية إلا و يتأملها بخطوط سوداء و مساحات رمادية أو زرقاء ، أو ألوان ضبابية متداخلة، في (صباح الخير .. أيها الحزن ). و تارة ينقل جهده إلى جزيرة أرواد و يحاصر الصيادين في ساعات ترميمهم الشباك، و يقنصهم في أوضاع جلساتهم الغريبة، و يحلو له الركن في مقهى القصر ، فلا يترك الباعة الصغار دون اهتمام فيرصدهم في أكثر أعماله، و إنما التعبير عن المضامين الإنسانية و بؤس الإنسان الحزين التي ترتبط بالمعاني النفسية و المتصلة بالحزن و الألم بوجه عام .
في عام 1965 عرض عمله الكبير ثم ماذا ؟ و هو ملحمة فنية تتكون من ثماني نسوة يصطففن على نسق واحد، يستقبلن المشاهد ، تتوجه أنظارهن إلى جهات مختلفة ، بينما يوحدهن تعبير الألم و الحزن المشوب بالرجاء في أقسى صورة ، و رجل في منتصف اللوحة يشكل حلقة وصل بين المجموعتين ينتحل الأسود أيضا ، و هو الوحيد الذي يخفض رأسه بخجل واضح ، و يزيد المعنى المسيج بالأسى بأيد مسبلة إلى الأسفل.
و على جانبي اللوحة طفلان بشكل متناظر ، أحدهما يحمل حمامة السلام و الآخر يحاصر أمه بيديه، و وجهه يتطلع إلى الأعلى متأملا أمه في رعب واضح من هول ما يجري حوله من مأساة .
الألم الإنساني رمز للتعبير
حين استطاع لؤي أن يستأنف العودة إلى الرسم راح يسجل حركة الناس البسطاء الذين يراهم كل يوم ،
(المرأة الحامل ، و المرضع ، بائعو اليانصيب و العلكة و الجوارب ) و ازدادت لوحاته غنى لونيا ، لقد بدأ
يستعين باللون ليخلق جوا تصويريا عصريا حيا، و يبقى الألم الإنساني رمزا للتعبير عنه ، و تبقى المأساة دون نهاية ، لقد كان يحاول أن يقدم صورة لموقف الإنسان المنفعل شكليا ، و القريب جدا من الحزن ، هذا الموقف هو موقف يوازي إحساس لؤي بذاته ، لأنه كان يدرك مأساة الآخرين أكثر من الآخرين أنفسهم ..
كان لؤي يدهش بأشكاله ، لأنه تناول انفعالات الحزن الأكثر قربا لنا من الفرح نحن ناس الشرق ، و لهذا السبب لا يستطيع المشاهد أن يقف موقفا عدائيا من شخصياته ، لأنها تحرك الأشياء الدقيقة فينا .. و قد أراد لؤي أن تكون النهاية ، لكنه لم يستطع أن ينجز فعل الموت ، و جاءه الموت رماديا و مقنعا بأبهج احتفالات الحياة .. لقد اعتاد أن يأخذ الحبوب المهدئة بعد مرضه ، كان يجبر على تناولها ، حتى أن أبا الخير ، ساقي المقهى، كان يدسها له في فنجان القهوة المركزة ، و قد صفعه مرة صفعة عنيفة عندما رأى الحبة في قعر الفنجان.
أشعل سيجارته و غفا ، و ككل قصص المآسي أحرقت السيجارة فراشه و جسده ، و بعد شهور انتهت حياة الفنان الذي كان عودا أخضر فوق صحراء مترامية الأطراف من الرمال ، و بقي المقعد فارغا في زاوية المقهى...
قال عنه باولو إميليو بوتشيني : " لوحاته تذكرنا بالرسوم الحائطية (افرسك) من القرن الثالث عشر الإيطالي ، مع تجديد في معالجة الخط و اللون و التركيب ، يهتم بإظهار الإنسان في مظاهره الأكثر حساسية و الأكثر شاعرية في إطار حزين ".
روائي و قاص