International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> لؤي كيالي .. هل تنطفئ الشمعة

Article Title : لؤي كيالي .. هل تنطفئ الشمعة
Article Author : وليد اخلاصي
Source : رؤى ثقافية
Publish Date : 2003-09-13


رؤى ثقافية العدد ( 4 ) – 13 أيلول - 2003
لؤي كيالي .. هل تنطفئ الشمعة ؟ وليد إخلاصي
حاصر الحريق لؤي كيالي منذ أن أعلن القضاء حكمه عله باليتم . وعندما أطلت طفولته على الفراغ الذي أحدثه غياب الأم، تساءلت بلهفة الحرمان عن الحنان الضائع. وابتدأ حريق حياته المرسوم له قدرا في جمر البداية: منذراً أبدا باشتعال لهيبه في كل مرحلة من مسيرة لؤي القصيرة، اللامعة كشهاب خاطف.
وجعلت عمتاه تنسجان قماش الرعاية، تدثرانه به، وترعيانه تعويضا عن يتم الأم، فنما جسده وتفجر حزن عينيه. وتفتحت غريزة الوجود في أوصاله فأمسك كفه بالقلم لتقوده الأصابع، والتي خلقت لعازف بيانو، وجعلت ترسم على الورق والجدران، فاكتشف الفتى أن استمراره في الحياة رهن بتجسيد أفكاره وأحلامه في أشكال وخطوط، وكأنه يعوض عن قلقه الدائم بوجوه إنسانية وظلال تحارب البياض وطبيعة صامتة يحلم دوما ببث الحيوية في زهورها وأشجارها. في المدرسة، كان الطلاب يتطلعون إلى دراسة تضمن لهم المستقبل المادي المشرق، يريدون أن يكونوا أطباء ومهندسين وصيادلة وتجاراً وضباطاً وأساتذة يديرون الدروس الخصوصية بمهارة، وكان لؤي كيالي يتطلع إلى فراغ يملأه بالألوان والخطوط ويسد فجواته بلحظات التأمل والحزن. كان يحس بتفوق إنسان الكهوف على الجدران الرطبة يسجل على خوائها خطوطه، فقد يعيد إليها الحياة. وبات لؤي النحيل ممتلئا بالشوق إلى عالم جديد من الفنون، التي يحلم بأنها ستغير من خط حياته المستقيم ممتداً ما بين البيت والمدرسة ، فكانت روما هي الهدف، فأطلق سهام رحلته إليها مؤمنا بأنه سيعود فيها بريشة غازية وألوان تغطي سطوح كهفه الأول.
وعاد الرجل الأنيق متأبطا ثقة بنفسه لا حدود لها، وقد شغل تفكيره بالمكانة اللائقة التي تنتظر قدراته الخلاقة، وبات هيكله العظمي والفني لافتاً للنظر في أوساط دمشق التي احتضنت كلية الفنون الجميلة والتي هي بدورها فتحت ذراعيها للأستاذ الجديد. و كان سوق الفن التشكيلي بعد ذلك في الستينات أشبه بحلقة إسبانية لمصارعة الثيران، وكان فيها لؤي من أبرز المصارعين، واحتلت لوحاته مكانة بارزة واجتذبت إليها اهتمام المتذوقين وكان معظمهم من مقتني اللوحات ورجال السلك الأجنبي، إلا أنها استقطبت أيضا حقد نفر من النقاد أشرعوا سكاكينهم في جسد فارس اللوحة الشاب، وكانت نزعة المراهقة الإيديولوجية قد استشرت في الحياة الثقافية وقد توجه معظمها للنيل من الفنان كيالي الذي وصف بأنه المتسكع على أبواب السفارات. وكانت سهامهم النارية توجه إليه بقسوة من يريد إلغاؤه، فلم تستطع، وظل لؤي منتصب القامة يتقدم المشهد الإبداعي مع قلة قليلة من الفنانين. ومن الأمور التي تثير الشفقة حقا أن عدداً من الذين كرسوا لتحطيم نجاح لؤي كيالي، هم أنفسهم الذين بدؤوا، بعد رحيله عن عالمنا، بتدبيج المقالات والكتب يكشفون فيها عن صداقتهم للؤي وإعجابهم به، فهل هي الصحوة أم التوبة أم النفاق المستشري؟
واشتعل حريق النكسة الحزيرانية لتشتعل النار في لوحات لؤي التي كرسها معرضاً عن النكبة الفلسطينية. وكأن حسد الحاقدين ولؤم أعداء الجمال قد عقد حلف الشيطان مع عدوان الخامس من شهر النكسة، فاشتعلت جمرة الحزن القديم لتكتوي بها روح الفنان الجميل وتختل موازينه ، فلم يكن هناك من حل سوى اللجوء إلى طبيب متخصص أشرف على علاجه ليتقدم لؤي دوما ويتأخر أياماً.
ودخل لؤي مرحلة التطابق النفسي والفني مع شخصية فان كوخ، فكأن هاجس الموت يخرج من عباءة الخلق الفني عند الاثنين، فتقارب قرن الفنان الهولندي القديم مع زمن الفنان السوري المعاصر، وكأنها رغبة القدر في المقارنة ما بين إبداعين لكي لا تكون فروق بين أعضاء مملكة الإبداع. وباتت المناجم التي أثمر فحمها عن أعمال لفان كوخ، شبيهة بصحراء الوحدة القاتلة التي دخلها لؤي كيالي مكرها ولم يخرج من وهج رمالها. أفهل قُدّر على المبدع أن يتقلب على وهج العذاب والحسد الغبي والإحساس المرهف بالوطن، وأن يلاحق بعلة تنافس الأعصاب على الجسد الناحل تلتهمانه بالتناوب، إلا أن العين تظل تلتقط ما حولها واليد تستسلم للريشة السابحة في بحر الألوان، فيستمر لؤي بتشكيل حياته في لوحات تصارع قلقه المتوتر أبدا بقدسية الأيقونة ونشوة الواقع، فمن تصوير للصفاء في وجه امرأة إلى التقاط لحظات البؤس عند فقير إلى استلام الطبيعة لهدوء طالما تمناه، توزعت أعماله التي تجاوزت الألف لوحة. وكأن رهانه على الحياة دفعه إلى المثابرة الملحة كي يقتحم حقل اللوحة القاحل ليزرع في قماشها أحلامه ورغبته في البقاء و التفوق، لكن نار الحريق كانت بانتظار نعيق الغراب لتنقض في غفلة من الزمن على الجسد الطري، فسقطت الريشة من يد موسيقي الألوان الحزين ، وأغمضت العينان على جمر الاستسلام. حريق البداية، حريق النهاية، تلك هي حكاية لؤي كيالي .
ولا أظن أن احتفال رؤى ثقافية لاستنهاض ذكرى واحد من أبرز فناني سورية التشكيليين إلا استجابة لنزعة البحث عن الرموز التي ساهمت في بناء الثقافة الوطنية على مر السنوات الفائتة. وبظني أن استكمال هذا الاحتفال يكون في اهتمام الدولة بإقامة متحف منفرد للفن السوري الحديث يضم بين جدرانه الأعمال المتميزة في الفن السوري المعاصر، وستكون أعمال لؤي كيالي واحدة من المقتنيات الهامة لهذا المتحف، وسيحفظ له ولمن سبقه ولمن سيأتي من بعده مكانا في الذاكرة التي تصاب عادة بالنسيان ما لم يكن هناك مشروع وطني للحفاظ على ذاكرة الثقافة بشكل صارم و كامل .
لقد ظهر لؤي كشعلة في سماء الإبداع السوري، وغاب الجسد وظل إبداعه متناثرا داخل سورية وخارجها لذا فإن استقطاب ما يمكن من أعماله الأصلية في المتحف سيجعل من شعلة لؤي كيالي متوقدة أبدا في ضمير بلده .