International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> لؤي كيالي الثقة الحية.. الرجاء القاسي

Article Title : لؤي كيالي الثقة الحية.. الرجاء القاسي
Article Author : علي جازو
Source : الملحق الثقافي- جريدة السفير اللبنانية - العدد 10796
Publish Date : 2007-09-10


ملحق جريدة السفير اللبنانيةالثقافي - تاريخ 10 أيلول 2007 - العدد 10796
يبدو الزمنُ متوقفاً في لوحات لؤي كيالي، وتبدو شخوصها كأنها تجاوزت زمنَها لكثرة ما تغضّنَتْ فيها وامتهنتها واستوعبتها وتشربت هواءها كلّه فلم يبق من الهواء سوى الضوء ومن العمل سوى اللون ومن الزمن سوى الأسى ومن الرجاء سوى القسوة ومن الحياة سوى الثقة بحياة لا تنتهي.أنْ يتوقف الزمن بل أن يوقف فكأنه يُحضَنُ أو يُودِّعُ أو يُتذَكَّر. والناظرُ المراقبُ لا يعرف إن كان سيحوز المرئيّ ويتلقاه أم أنه سيخسره فيتقبل وداعه الأخير وتذكاره الحميم. إنه يحلم، وما يراه ليس متخيلاً قط. إنه المرئي القريب حد اللمس حدّ الألم الخجول القاسي حدّ الثقة الحية الخائبة. تُحدَّدُ معظم شخوصه بخطوط سوداء ناعمة على سماكة خجولة فاترة. إنها الحدود المرهفة، والمباحة بذات الوقت، حيث يتحصّنُ الكائنُ ويعاني من كونه وحيداً ومقيداً ومنطوياً في لحظة كشفٍ واهية تؤبِّدُ جوهرَهُ الملتاع والمنزوي والمنفرد المستوحد. الحدودُ الخطية تتلقى انحدارَها العاطفيّ وشبحيّتَها الفوتوغرافية نحو الداخل، فانسحابَها المتوازي الثابت، ثم مكوثها واستقرارها هناك مثل جنين لا ينمو لا يكنه لا يموت. وفي هذه الإعاقة المتوترة والتنامي المقيد تبرز كفاءتها الجوهرية واستحقاقها الحي المتألم المتعادل المنسجم والمتداعي معاً. إنها تتمركز وتتمحور على هشاشتها وإطراقتها الجانبية (يندر وجه ينظر مباشرة فينا) باثّةً شرودَها بمستوى لوني واحد تقريباً خلف السطح وخلف الجلد في ثباتٍ نَغَميٍ مسربة منها إلينا دواخلَها الراكدة، عطبَها الصامت وجوعَها الحييَّ؛ على وتيرة عاطفة عشناها ولم نأبه أنها مازالت مدفونة في عظامنا الناكرة. هي لا تتحصن قدر ما تتهيأ للاختباء والتلملم والنسيان، كأنها تعرض كيانَها لحظة واحدة فحسب، ثم تسجن وتعقل في حدود الألم الحرجة التي هي مرآة شديدة الوضوح والبساطة. فينبسط السجنُ حولها نسيجاً واحداً ويغدو محيطها نفسه من مادة الألم ذاتها. إن إيماناً مصوناً بريئاً غريباً مخزياً ومتناولاً بمرونة مطرَّاة يكبر داخل هذه الخطوط الرحمية الغافية، وبها كائنات لا تنظر قدر ما تذكر المشاهد بحالتها المرئية الشحيحة المعرّاة. عرْيُ كيالي ذو صباغ لوني دافئ ومطفأ. وهو متواتر ومتناوب بين شجو لوني هادئ كالغروب وحسية عضوية منطوية ثابتة كحجر صقيل ناصع. كائنات المحيط اليومية: (ماسح الأحذية، بائع الذرة، مرمم الشباك، بائع العلكة، بائع المسبحة، الغسالة، الأم، المرأة المريضة، السيدة المرضعة، قاطفو القطن، بائع اليانصيب، المسيح، الحلاق... الخ) مشغولة بترقب وانتظار حنان ما تذكر ما. وهي مقبوضة ومسجية بهالة غبشية مفتتة. انتظارُها صنْوُ حياتها مثلها مثل مراقبتها فقدت كل رجاء وكل رأفة. إنها تنظر كي تتبين وتبنى وتتكاتف وتتقوى وتمتحن من جديد قدرتها الطرية المؤنثة على حفظ حالها كما هي في مدار القسوة ومآل النسيان. يتوزع الضوء بتساوٍ وتجاور معتدل، دون تداخل أو تراكم، على كل اللوحات تقريباً، عدا الطبيعية منها، وهذا الانتشار شبه الصوفي العائم الهادئ والمغتبط بدرجة ما يشبه متناغمات باخ ملالمتوالية دون كلل ودون تراخ مع حفاظها على التدرج نفسه والوضوح الملغز الحيويّ باعثة رحمة غير متوقعة أبداً وبهيئة وقورة رصينة وصافية. إن ما يحفزنا إلى إعادة النظر في هذا الاعتدال المنتشي وهذه المرونة المنسابة هي قدرتها الكامنة على الصمود المسالم، كضوء النجوم الذاوية، في وجه نفسها أولاً ودائماً. إنها منذورة لتكيفات قسرية طاحنة كأنها تتهيأ للتوسّد،للتجمد والتحنط، لكنها تحتفظ بمخزون داخلي وافر ومغتبط وسري. وما قدراتها الكامنة هذه، عبر سطوح تكاد لا تعاني أي خدش ولا أي إضافة خارجية ولا أي غموض أو ترميز، سوى امتلاك معاكس فقير أشبه بمن يحوز كنزاً عاطفياً من نشيج هواء المحيط النقي، وانسجام ضوء النهار المشاع. إن ما يرهق ويسحق لؤي نفسه قد انمحى في وعن لوحاته؛ فقد صيغت وبريت واعتصرت بعد أن صفيت ونظفت واستوت في رؤى غالبت اعتلالَ شخوصها وإعاقتها وتهميشها فظفرت منها بقشرتها الخفيفة وسطحها الشفاف وذؤاباتها المضيئة. تبدو فرشاة لؤي وقد هامت وتبسمت وخشعت وعانقت في لطف صامت وحذر نشط وحنان كلي
وأناقة طرية. فقد بذلت، لذلك كله، مجهوداً مضاعفاً وثقيلاً وعارفاً، حتى تآكل ما يثقلها ويقيدها فتخففت من حمولة الواقعي الخشن الشرهة وسربت براءتها العفيفة وحياءها الطاهر المسال عبر سطحية لونية مشبعة وارتواء روحي نديّ. امتلاؤها الممسد الملموس البسيط وسيولتها الممدة الملساء محددان ومغتنيان بسياج الخطوط ذاتها. لا هالات حولها، لكن الخطوط هذه، شبه الطيفية الظليلة على دقتها ونحولها وإحاطتها المسيِّجة، تشي بأثر هالة غائرة لا مرئية. والمرئي هنا ـ من الخط المحدد ومحيطه اللوني الموحد ودواخله المرتوية بذواتها ـ يثبت اللامرئي ويستقدمه ويناجيه ويغلفه مثل هدب على عين ساهمة مغلقة، بقول محور ومستعار من والت ويتمان. لدى لؤي كيالي الجسم العضوي هو النفس الحاضرة، والحسيُّ مدارُ ومنالُ ومحارُ ومآلُ الروحي، واللون الواحد المتكامل هو البوح الصامتُ كلُّه. النفس ممتلئة لوناً ورشاقة وتكشّفاً تلقائياً دافئاً وغزيراً أشبه بفطرة مستعادة وغريزة جوهر حيّ. وهذا البوح المتكافل المتناغم مرهون بسرّ البديهة الغامض وعنفوان الروح المصفّاة حيث الأحداث تتوالى كالهيئات نفسها ماضية كما لو عبر مرايا دفينة هي الأجساد المؤطرة بخطوط سوداء ضامّةٍ أقداراً يتداخَلُ في نشوئها الوزرُ العابثُ مع الرأفة الخبيئة والرّقةُ المهانة مع الأسى الأبديّ. إنها كدماتُ الغيب الخائر وكآبة النفس المهزومة ببراءتها وإيمانها؛كآبة ما هي، بقول إميل سيوران، سوى حقدٍ حالمٍ.