الفنان التشكيلي العالمي لؤي كيالي

الصفحة الرئيسية >> أرشيف الصحافة >> لؤي كيالي - إبداع في الفن وشفافية في السلوك

   
عنوان المقال : لؤي كيالي - إبداع في الفن وشفافية في السلوك
كاتب المقال : فاضل السباعي
المصدر : مجلة الأزمنة السورية
تاريخ النشر : 2010-01-17


لؤي كيالي - إبداع في الفن وشفافية في السلوك
فاضل السباعي
مجلة الأزمنة السورية
2010-01-17


لم يتوقف الفنان لؤي كيالي عن ممارسة الرسم الجميل، كما أنه لم يتوقف عن إرسال القول الجميل أيضاً.
ما أعرف من حياته، القصيرة زمناً والغنيّة عطاءً، إنه كان يرسم حتى في أيام امتحانات الكفاءة والثانوية يوم كان طالباً في ثانوية المأمون بحلب، وعندما انتابه ذلك المرض النفسي، منذ صيف 1966 حتى رحيله يوم الثلاثاء السادس والعشرين من العام 1978، أخذ يرسم متجاوزاً أسلوبه المعتاد إلى أسلوب ابتدعه في مجموعة أعمال سمّاها "الإنسان في الساح" ، وفي مجموعة تلتها " في سبيل القضية " هذه التي أقام بها معرضه السابع في نيسان وأيار 1967 في المركز الثقافي العربي بأبي رمانة، وكان من أمره، في الندوة التي عقدت له في ظل المعرض، ما يذكره طلابه الذين حضروها وأصدقاؤه، والمعجبون والشانئون على حد سواء.
ولكني ما إلى هذا قصدت في مقالتي الصغيرة هذه، بل إلى الإشارة إلى أنه كان يقول القول الجميل، ومبعث الجمال في قوله الصدق والحق والشفافية والتسامي في ذلك كله، ولو ورد في قوله ما يتنافى مع مصلحته الآنية.
لم يكن لؤي كيالي يعشق الكتابة عشقه للرسم، فإن هو كتب إلى إخوانه لم يزد ذلك في الأغلب على بطاقة يهنئ فيها أو يشكر أو يعايد، وأما الرسالة، فإنها – حسب علمي- قليلة نادرة، فقد انحصر التعبير عنده في الريشة والألوان، ولكني أبين هنا أني أمتلك رسائل منه، تكتسب فرادتها من أنه كتبها وهو في أُوَيقات "صَحْو" كان يستظلها ما بين غيبوبة وأخرى، ينظر خلالها بألم عميق إلى ما عاناه في الماضي القريب، مستشرفاً بقلق ما قد ينتابه من أوجاع في المستقبل القريب أيضاً!
وصادف أن لؤي تعرض لذلك المرض "الفصام" (شيزوفرينيا" في صيف العام 1966 حين انتقلتُ من حلب إلى العاصمة موظفاً في إحدى الوزارات، وأذكر جيداً أنه، في اشتداد وطأة المرض عليه في خريف ذلك العام، بدا كمن يحاول أن "يهرب" من مرضه- وهل أقول: من نفسه؟- إلى عالم الطبيعة الرحيب، فكان يستأجر سيارة من "مكتب تكسي الجسر الأبيض" بسائقها "ذلك أنه لم يكن يعنى بقيادة السيارة)، يطوف بنا، بأفراد أسرتي، في الغوطتين الغربية فالشرقية، ولكن بدا أن تحرره من "أزمته المرضية" – كما سماها لي في رسائله فيما بعد- لم يكن إلا لساعات تعود بعدها إليه الهواجس متى جن الليل.
بعد أن فقد لؤي أباه، في العاشر من كانون الثاني 1970 (وكان قد فقد أمه قبل ذلك ببضعة عشر عاماً)، لم يعد في الأسرة من يُعنى به إلا عمه بحلب الدكتور طه إسحاق الكيالي، وأنا صهره بدمشق (أكبُره بخمس سنوات). وقد أشار علي العم (وهو نقيب الأطباء بحلب، ومدير الصحة فيها، وأستاذ بكلية الطب) أوائل العام 1968، أن أصحب ابن أخيه من دمشق إلى حلب، فيُعالج في مشفى خاص في "حي السبيل" (كان اسمه "مشفى الرحمة"، وهو اليوم مشفى ضبيط)، ولمّا لم تُجدِ المعالجة نفعاً، فقد اجتهد العم في أن يبعث لؤي من حلب مصحوباً إلى مصحّ في بيروت يديره الطبيب السوري المتخصص الدكتور علاء الدين الدروبي (صديق العم أثناء دراستهما الطب بالجامعة السورية). ثم يلتمس منّي مرة أخرى، أن أصحب لؤي بنفسي من دمشق إلى بيروت (وكان ذلك يوم الأربعاء 28/1/1970).. وهكذا قدر للفنان لؤي كيالي أن يتنقل، خلال الأعوام 1968 – 1970، بين المصحات، من دمشق إلى حلب وبيروت، طلباً للشفاء، ولكن داء الفصام لا دواء له، إنه يصيب الإنسان كالصدْع يقرع آنية الكريستال.
ومع انقطاع لؤي عن التدريس بكلية الفنون الجميلة، انقطاعاً تمادى حتى أصبح وضعه الوظيفي مهدداً بالفصل من الجامعة، كنت أسعى، بالتفاهم مع العم بحلب، إلى "تغطية" الغياب بتقارير طبية كان يتحتم أن تصدر- بسبب طول مدة الغياب- عن "لجنة فحص الموظفين" بدمشق أو بحلب.
إن الرسالة التي أنا بصددها، وهي مكتوبة بخط يد لؤي الأنيق الجميل، نجده يعبر فيها عن أمرين يراهما جوهريين: إنه ينفي عن نفسه المرض (وهذا طبيعي في مثل حالته)، ومن ثم يرى أن "تغطيتي" لغيابه عن العمل بتقارير طبية (كاذبة) يعد أمراً "غير قانوني"! ولا تخلو مناقشته لهاتين المسألتين من "تناقض" هو وليد الحالة التي يرزح تحتها.
اقتطفت فقرات من تلك الرسالة (التي يعود تاريخها إلى الثاني عشر من تشرين الثاني 1970، أي بعد تردده على المصحات مرات أربعاً).
يخاطبني لؤي، بعد التحية:
"أبادر سريعاً بالكتابة إليك، نظراً إلى اختصاصك في الحقوق، ونظراً إلى اعتبارك قد عايشت أزمتي المرضية الحادة لحظات طويلة، واستناداً إلى طلبك – عن طريق شقيقتي الصغرى (غالية)- تقديم تقرير طبي لتغطية انقطاعي وغيابي عن التدريس في الكلية منذ مطلع العام الدراسي الحالي (يعني مطلع 1970)، وفي هذا تجاوز للحقوق، لأني لم أعد مريضاً، ولو (أني) مازلت في نظر البعض مريضاً، ورغم أني لازلت أشعر – في بعض الأحيان- بالتعب، وبالمرض ينتابني نتيجة الغثيان والألم اللذين يجتاحان معاً أعماقي".
"لن أشرح ولن أعلل.. فهناك الكثير الكثير- سنتان أو أكثر وأنا في صراع!- إلا أني بكامل قواي العقلية، رغم ظنون بعض آخر، وهذا طبيعي، فكل إنسان يرى العامل من زاويته ويفهم الآخرين حسب إمكانياته في الرؤية وفي الإدراك".
"آسف لبعض الشرح والتعليل.. فقد فاجأتني (شقيقتي) غالية بطلبك التقرير الطبي، إذ سيكون بتقديمه افتراء وكذب لا مبرر لهما، فإيقاف راتبي الشهري من الكلية أمر متوقع وطبيعي، كما وإنني أعلمتك مسبقاً بأن التدريس لم يعد ضمن إمكانياتي وبأن نقلي أو تحويلي إلى وظيفة إدارية غير وارد".
ثم يعود إلى القول:
"وحتى تنفيذ قرار ما، بصرف راتبي شهري أو بدفع تعويض معين، فإن إيقاف راتبي من الكلية قانوني وجيد أيضاً"!
ما كان للؤي، حتى وهو في عز أزمته المرضية، أن تغادره أصالته ونبله، وهو الذي كثيراً ما عبّرفي مقابلاته الصحفية، عن ضرورة "المزاوجة" بين الإبداع والسلوك، وإننا لنقرأ، في صدر الصفحة الأولى من "ملحق الثورة الثقافي" (الإصدار القديم)، يوم الخميس الثاني من حزيران 1976، بالخط العريض: "لؤي كيالي: الفن موقف من الحياة وهناك ترابط بين إنتاج الفنان وسلوكيته".
ذلك واحد من ملامح لؤي كيالي، يضاف إلى كل ما قدمه للفن من أعمال باهرة، يباع الواحد منها اليوم بملايين... كان يكفي واحد منها للتخفيف من معاناته إن لم يمكن تحريره منها.